أسس الانبعاث

أسس الانبعاث
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

عند ذكر كلمة “الانبعاث” فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو البعثُ بعد الموت، وعلى ذلك فإن “الانبعاث” هو مفهوم يرتبط على الأكثر بالكائنات الحية، غير أن هذه الكلمة قد تُضاف أحيانًا إلى أمور أخرى؛ مثل انبعاث الفكر، وانبعاث المؤسسة.. والقاسمُ المشترَكُ بين الاستعمال الحقيقي للكلمة والمجازي لها هو أن الشيء الذي فقد حيويّته، ولم يعد قادرًا على أداء مهمّته الحيوية، وأوشك على الذبول والانطفاء؛ يبدأ في استعادة عافيته من جديد، ويرجع إلى حالته الأولى مرة أخرى، ويقوم بطفرةٍ وحركةٍ جديدة.. وبهذا المعنى نستعمل أيضًا كلمة “الانبعاث” عند التعبير عن صحوة المسلمين واستواء ظهورهم بعد البؤس الذي لازمهم لقرنين أو ثلاثة قرون.

حقيقة الأمر أن وقوف الإنسان على قدميه وانبعاثَه بالمعنى الحقيقي في الآخرة يتوقّف على انبعاثه في الدنيا من حيث فكره الديني، ومن لم يعشْ انبعاثًا في الدنيا فليس له أن يعيش انبعاثًا في الآخرة! فهل يمكن أن يُسمّى انبعاثًا خروجُ الإنسان من قبره لِيُساقَ إلى جهنم بالسلاسل فيُحاسَب على الجرائم التي ارتكبها في الدنيا كما يُساق المحكوم عليه بالإعدام إلى المشنقة ويداه مغلولتان إلى عنقه؟!

من هذه الجهة فإن الانبعاث يبدأ في الدنيا، فالذين يظفرون بمثل هذا الانبعاث المجازي في الدنيا عن طريق إقامة صرح أرواحهم سيعيشون هذا الانبعاث في الآخرة أيضًا بشكل حقيقي.. ندعو الله أن يرزقنا مثل هذا الانبعاث في هذه الدنيا! وأن يبعثنا على حياةٍ نشعر فيها بنشوة الانبعاث الحقيقي في الدار الآخرة!

يقول المرشد الكامل وشمس سماء العرفان الأستاذ النورسي رحمه الله ويوضح الطريق إلى هذا الانبعاث: “انسَلْ من الـحيوانية، ودع الـمادية، وارتق في مدارج حياة القلب والروح”[1]، فأكثرية الناس يسعون وراء نزعاتهم النفسية، ويعيشون في فلك الجسمانية، ولا ينشغلون إلا بمتعهم المادية فقط؛ بمعنى أن عيونهم دومًا على الدنيا، يستمتعون بكل ملذاتها وكأنهم مخلدون فيها، ولا يقنعون بما في أيديهم، بل يطلبون المزيد دائمًا، ويرنون بأبصارهم إلى من يعيشون في سعة ورخاء، ويقولون: “لِمَ نُحرَم هذه الجماليات!”، حيث يطمحون في أن يعيشوا حياة الأبهة والرفاهية؛ وهو ما نسميه الدنيوية، فمن لم يستطع أن يتخلّص منها فلا انبعاث له؛ ولهذا أرشدنا بديع الزمان سعيد النورسي إلى سبل العيش في أفق حياة القلب والروح.

ومَن ارتقى في أفق القلب والروح في هذه الدنيا فاز في الآخرة بعالَمٍ مختلفٍ رحْبٍ، وهنالك يتذكر عهده مع ربه، ويفهم سرّ “قالوا بلى”. وبينما يدّعي الآخرون عدمَ درايتهم بهذا العهد نجده يستشعر في وجدانه بالميثاق الذي أخذه الله على بني آدم في عالم الذّرّ، حين قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، فقالوا: ﴿بَلَى﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/172)، وينظر إلى الأحداث بنظرة فاحصة أكبر، ويقيمها بنظرة شمولية أكثر، ويحيك نسيجها من خلال تمرير الخيط بين السبب والنتيجة؛ وبالتالي يصل إلى بُعدٍ آخر، ويدرك معنى أن يعيش حياةً إنسانية صافية.. فلا انبعاث في الدنيا لمن لا يستشعر كل هذا بعمقٍ في وجدانه، ولا يراعي آداب وأركان خطّ السير.. يقول الأستاذ النورسي مخاطبًا هؤلاء: “يا أيتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، أيتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما.. وهو الإسلام، انصرِفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا أمامه حجرَ عثرةٍ، فالقبور تنتظركم.. تنحَّوْا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيَرفع أعلامَ الحقائق الإسلامية عاليًا ويهزّها خفّاقةً تتماوج على وجوه الكون”[2].

كما يبشرنا الأستاذ النورسي بوقوع انبعاثٍ قويٍّ في المستقبل فيقول: “كونوا على أمل؛ إن أعظم صوتٍ مُدَوٍّ في انقلابات المستقبل هو صوت الإسلام الهادر”[3].. وهو هنا لا يتجاهل الآخرين، ولا يدينهم ولا يستخف بهم؛ لأن بديع الزمان لا يقول بانقطاع كلّ الأصوات الأخرى، أو أن صوت الإسلام سيخنق كلّ الأصوات، بل يقول إن صوت الإسلام سيكون أكثر الأصوات دويًّا وسموًّا، وهذا يعني أن الأصوات الأخرى ستظلّ مسموعةً، ولكن صوت الإسلام سيكون الأكثر تميُّزًا وبروزًا بينها.. فإذا رفع الناس رؤوسهم ونظروا إليه قالوا: “إلى الآن ونحن نتجول عبثًا هنا وهنالك، في حين أن الصوت والنفس اللذين كنا ننشدهما حاضران هنا”؛ أي إنهم سيجدون في الإسلام الصوت والنفس اللذين كانت تنشدهما أرواحهم وأفئدتهم.

وحتى يعيش الناس مثل هذا الانبعاث عليهم أن يتوجهوا إلى الروح والمعنى منسلخين من القوالب والأشكال، وأن يصلوا إلى أفق حقّ اليقين عبر إجراء دراسات تفصيلية حول الأوامر التشريعية والتكوينية، وعلى حدّ تعبير الأستاذ “نجيب فاضل” فإنَّ عليهم حلجَ الحوادث والأشياء وتحليلَها وتوليفها؛ حتى يستخلصوا منها أقراص العسل وحزم المعاني الجديدة، لا بدَّ أن يواصلوا طريق المعرفة بِنَهَمٍ وشهيّة لا تعرف الشبع، وأن يرسّخوا إيمانهم باستمرار، وأن يجتهدوا في إحراز أفق الإحسان؛ بمعنى أن يعيشوا حياتهم في إطار فكرة: “اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وأن ينظموا حياتهم بحسب ذلك، وإلا صعب عليهم التخلّصُ من الاعوجاجِ والالتواءِ والسيرُ على استقامة.. إنَّ مما يؤسَف له أن كثيرًا من الناس قد افتتنوا بالدنيا، ولم يستطيعوا بلوغَ هذا الأفق من الإيمان والإخلاص والإحسان واليقين، فصاروا يقضون حياتهم في دوامة من الرغبات اللعينة مثل الاستمتاع في الفيلات والمنتجعات، وإشارة الناس إليهم بالبنان، وإحراز المناصب والمقامات.

إن من يعيش وفقًا لفكرة “اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” يشعر دومًا بمراقبة الله له، وتنمحي من أمام عينيه رؤية ما سواه.. فهو يشرع في عمله لله، ويعمل لأجل الله، ويعطي لوجه الله، ويأخذ لرضا الله.. والحاصل أنه في كلّ حركاته وتصرّفاته يحرص على رضا الله، ومن وصل إلى مقام الإحسان في عالمه الفكري والشعوري لا ينفكّ الإخلاص ورضا الله عن أعماله، ومن رُزق الإخلاص وفاز بالرضا استنارت كلُّ ثانية في حياته وتلألأت.

عودًا على ذي بدء؛ إن رأس الأمر هو الإيمان بالله؛ أي أن تؤمن بوجود الله تعالى ووحدانيته، ولكن ينبغي ألا يقتصر الإنسان على الإيمان السطحي التقليدي، بل عليه أن يسعى إلى تقويته وترسيخه؛ بحيث يكون لديه تصديق قاطع لا ريب فيه بوجود الله تعالى، وهو ما نسميه الوصول إلى مستوى الإذعان في الإيمان، والتشبّع به كلّيّة.. ولقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على العمل الصالح بعد ذكر الإيمان مباشرة، وكأن العمل الصالح من متطلبات الإيمان، ومن ثَمّ يجب على المؤمن الصادق -بالإضافة إلى إيمانه الراسخ بالله- أن يباشر أعمالًا طاهرةً نقيّة خاليةً من العيوب، سليمةً من الشرك والعجب والرياء، لا يستهدف من ورائها إلا رضا الله؛ بمعنى أن يجعل كلّ عباداته وطاعاته تدور في فلك الإخلاص.

ومثل هذه الحياة الإيمانية والتعبدية الدائمة تولِّد ما يسمى “محبة الله”، فالمؤمنون الذين يعيشون حياتهم بهذين البعدين الإيماني والتعبدي يحبون الله حبًّا جنونيًّا، فينشأ عن هذه المحبة “الشوق إلى لقاء الله”، وهذه هي الذروة التي ننشدها ونستهدفها، وهي الجديرةُ بأن نلحّ بالدعاء في طلبها، فالأمر يستحقّ ذلك، وقيمةُ المرء بقدر ما يطلبه، فمن يطلب رضا الله ورضوانه يصل إلى قيمةٍ تفوق جميعَ القيم، ولكن ينبغي للإنسان عند طلب هذه الذروة ألا يغضّ الطرف عن الطرق والجسور التي توصله إلى هنالك، ويعمل على قطعها واجتيازها منذ البداية واحدة تلو الأخرى.

فمع الأسف أزهِقت روحُ الدين، وسُرق عشقنا وحماسنا، وأُبعدنا عن ذاتيتنا، وأُدخِل الدين تحت وصاية الأنظمة والإرادات السياسية، وضُحِّيَ بالدين في سبيل أغراضٍ دنيويّةٍ زائلةٍ لا قيمة لها، ولم يبق إلا الإسلام الشكلي نتسلّى به.. وحتى مستوى عباداتنا الشكلية باتت محلّ نقاش، فلننظر ونحكم: هل إذا حزَبَنا أمرٌ ونحن نؤدّي عباداتنا ضيّعْنا هذه العبادات في سبيل هذا الأمر أم لا؟! وهل يا تُرى سننصرف عن الأوراد والأذكار بحجّة أننا نقوم بأمرٍ مهمّ؟! وإذا فعلنا ذلك كيف سنحبّب ربَّنا للآخرين ونحن لا نحبّه حبًّا جنونيًّا؟! وكيف سندعو الآخرين إلى سبيل الله ونحن أنفسنا لسنا على سبيله؟! وكيف سنكون وسيلة للانبعاث في عالم الإنسانية ونحن لا نعيش انبعاثًا في عالمنا الداخلي؟!

كل هذه أمورٌ نفتقدها.. ربما نُلزِم الآخرين بتكاليف معينة باسم الإسلام في حين أننا في هذا الموضوع نسير أضعف السير، فيا تُرى هل نحبّ الذات التي نعمل على تحبيبها للآخرين بالقدر الذي تشتاق إليها نفوسُنا؟ يُروى أن “فرحات” خرق الجبال من أجل حبه لـ”شيرين”، فماذا فعلنا نحن للوصول إلى محبوبنا؟ هل حلجنا كتابَ الكون لشعورنا بالشوق والاشتياق إلى ملء وعاء معرفتنا؟ هل لم نكتف بما في أيدينا وطلبنا المزيد؟ أي هل بذلنا جهدَنا ومساعينا في سبيل أن نحب الله صدقًا، ونكون عبادًا لربّنا حقًّا؟ هذه هي أكثر الأشياء التي نحتاجها.

فإن لم يكن لدينا مثل هذا العزم والثبات والجهد والسعي؛ فلن نتخلّص من التقليد، ولا يعدو إسلامنا أن يكون إسلامًا نظريًّا تقليديًّا، ومن كانت حالهم هكذا فلن يقدروا على إحداث انبعاثٍ جديد.

 

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، ص 188.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، ص 411.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة الذاتية، ص 173.