مهمة فرسان الانبعاث

مهمة فرسان الانبعاث
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

يقف وراء معظم المشاكل التي يعيشها الإسلامُ اليوم مسلمون تقليديون لم يستوعبوا روح الإسلام بشكلٍ كاملٍ، ولم يبلغوا شعورَ الإحسان والإخلاص، فسلوكياتُهم المنافية للمعايير التي وضعها الإسلام، وجهلُهم بحدود الحلال والحرام كانت سببًا في تشويه صورة الإسلام والمسلمين وزعزعة موقفهم.. ولذلك فإن الوظيفة الأساسية التي تقع على عاتق فرسان الانبعاث هي إعادة إحياء القيم التي ضيّعناها في حياتنا القلبية والروحية، والعمل على أن تكون هذه القيم بكلّ حيويتها جزءًا من طبائع الناس، وذلك لأن تخلّص الإنسانية من الإسلام الصوري التقليدي منوطٌ بتلك القيم التي يأتي الإخلاص على رأسها.

وإذا ما شبهنا محتوى الإسلام بقصيدةٍ من الشعر لقلنا الإخلاص قافيتها، أي أن تؤدّى جميع الأعمال بشعور عميق بالعبودية وترتبط بالله تعالى، ومن المعلوم أن الإخلاص هو القيام بكلّ عملٍ كما أمر الله تعالى، وعدم التشوف إلى أيّ شيءٍ سوى رضا الله عز وجل، وعلى حد قول الأستاذ النورسي رحمه الله في مطلع الكلمة الأولى من رسائل النور: “أن يعطي الإنسان باسم الله، ويأخذ باسم الله، ويبدأ باسم الله، ويعمل باسم الله”؛ باختصار أن يشرع الإنسان في كل عمل مبتغيًا رضا الله ومرضاته.

علينا كلّما رفعنا أكفّ الضراعة إلى الله أن نسأله الرضا والإخلاص، فهذا مهم للغاية حتى إن الإنسان لو بقي يسأل الله الإخلاص والرضا صباح مساء فهذا قليل أيضًا، لأن أعظم هدفٍ تتحقّق من خلاله الغاية من الخلق هو أن ينأى المؤمن بنفسه عن أي غرضٍ دنيويّ، وتستيقظَ لديه مشاعر العبودية الخالصة لله، فقمّة العبودية لا تتجلّى في الإعراض عن الأغراض الدنيوية فقط، بل في عدم ربط العبادات حتى بأيّ غرضٍ أخرويّ، والقيام بها من أجل الفوز برضا الله تعالى ليس إلّا.

ومن المعلوم أنه ليس من اليسير بلوغ مثل هذا الأفق، فثمة أشياء كثيرةٌ تتسلّط على الإخلاص، وتخرقه، وتقرضه كالعثّة، ومن ذلك على سبيل المثال: الغرائزُ البشرية، والسكون إلى الدعة والراحة، وحب الشهرة، والمشاعر الانهزامية، والمصالح الدنيوية… إلخ؛ فهذه كلّها تُبعدنا عن الإخلاص، وتمنعنا من الانفتاح على الآخرة وعالم الملكوت، وتُفقدنا أعظم الامتيازات، وحتى الذين سلكوا الطريق القويم إن لم يتوخوا الحذر تتزعزع دعائم الإخلاص عندهم بسبب دناءة مشاعرهم وتفاهة طموحاتهم، ويتعرّضون للسقوط، ويخسرون في موضعٍ هو أدعى للكسب، وإن كانوا يحسبون أنهم يسيرون على الطريق المستقيم.

والمهارة لا تعني القيام بالعديد من الأعمال، أو إنجاز العظيم من الأشياء، أو تسيير الكثير من الأمور، إنما المهارة الحقيقية هي ربط كلّ شيءٍ بمرضاته؛ إذ لا يوجد شيءٌ أسمى من التعلّق بمرضاة الله.. فإن لم نتمسّك بالإخلاص في أعمالنا وخدماتنا فسنخسر أنفسنا حتى وإن غيّرنا وجهَ العالم، ولو بدا لنا أننا من الرابحين في الظاهر فنحن في الحقيقة قد دخلنا عند الله في فئة التعساء الخاسرين، ولن يطول عمر الأعمال التي حسبنا أننا نجحنا فيها، بل تتلاشى وتصبح هباءً منثورًا، لذا ينبغي تحرّي الإخلاص في كلّ أمرٍ، وألا نتخلّى عن محاسبة أنفسنا في كلّ وقتٍ وزمان.

والإنسان يوفَّق في إخلاصه بقدر تعمُّقه في معرفة الصانع جل وعلا، فالوصول إلى الإخلاص الحقيقي مرتبطٌ بهيمنة معرفة الله على كيان الإنسان، فمثل هذا الإنسان إذا فتح فمَه أو نطق بلسانه أو رمش بعينِه أو حرّك قدميه استشعر أنه في حضرة الله، وما غاب هذا عن باله لحظةً؛ فنظراته عميقةٌ، وتصرّفاته جادّةٌ، ومواقفه رزينةٌ، وكلماته مهذّبةٌ، وكلّ سلوكياته تهدف إلى الإيمان بالله ومعرفة الله ومخافة الله، فلا يصدر عنه سلوكٌ أو موقفٌ غير لائق، فلو كانت معرفة الله تحيط بالإنسان على هذا النحو وتُهيمن عليه، فقد فاز بالتعمق في إيمانه، والإخلاص في أعماله.

إن المهمة الأساسية المنوطة بالذين يسعون إلى بعث حركة الإحياء وتمثيل الإنسانية والإسلام بالشكل اللائق؛ هو إحياء هذا الشعور بالعبودية، فالمسألة ليست تعويد الناس على الصلاة، بل جعلهم -إن جاز التعبير- مجانين بالصلاة؛ بحيث تكون قلوبهم -كما جاء في الحديث الشريف- معلقةً بالمساجد، ينتظرون الصلاة بعد الصلاة؛ فإذا خرجوا من المسجد بعد أداء صلاة الظهر تشوفوا إلى أن يرفع المؤذنُ أذانَ العصر حتى يهرولوا مرة أخرى إلى المسجد ليقفوا في حضرة الحق سبحانه وتعالى في خشوع وخضوعٍ وتسليم، ويخروا سجدًا، ويمرغوا وجوههم على عتبة بابه سبحانه، ويعلنوا عن عجزهم وضعفهم وفقرهم أمام عظمته سبحانه.. ولا يجب أن يكونوا مجانين بالصلاة فقط، بل بالصوم والإنفاق وسائر العبادات، ولا بد أن يكون لديهم عزم وتصميم على أداء كل العبادات بوعيٍ وإخلاصٍ.

وعلى عكس هذا الشعور بالعبوديةِ المفعمِ بالإخلاصِ يأتي أداءُ العبادات لمجرّد التخلّص منها، أي أداؤها دون أن تستشعرها خلايانا العصبية في المخّ، ودون وعيٍ حتى بأننا نقف أمام الله، فيجب على الإنسان أن يعزم على الوعي في أداء العبادات، وقد لا يشعر أحدُنا في أعماقه بهذا في بداية الأمر، لأن ذلك منوطٌ بالجهد المستمر والعزم القوي، وقد روي عن الجنيد البغدادي أنه لم يصل إلى أفق العبادة والمعرفة الذي ينشده إلا بعد ستين سنة، وبالمثل كان بديع الزمان سعيد النورسي يقول: إنه يسبح الله ويذكره بتسبيحات الصالحين متمنيًا أن يكون على شاكلتهم، فكان يشعر وكأن الكون كلّه يسبّح معه.. فالأساس هو أن يطمح الإنسان إلى هذا الأفق، وأن يبذل قصارى جهده لبلوغه.

فلو كنتم حريصين على التعمق في العبادة وكنتم مهيئين للوصول إلى أفق الإخلاص والإحسان فستصلون إلى مبتغاكم يومًا ما، إن لم يكن اليوم فغدًا، ثم إن عليكم أن تنقلوا ما تشعرون به إلى الآخرين، فهذه هي المسؤولية التي تقع على عاتق المنتسبين إلى حركة الإحياء، وكما ذكرنا آنفًا فإن هذه المسؤولية تتمثل في تخليص الناس من الإسلام التقليدي، والأخذ بأيديهم إلى الإسلام الحقيقي، وتوجيههم إلى حياة القلب والروح.. والحق أن تخلص الناس أيضًا من ضغوطات السياسة في وقتنا الراهن يعتمد على تقوية صلتهم بربهم من خلال هذا التوجه الروحي.

كلُّ ابن آدم خطّاءٌ، ولكن من وصلوا إلى هذا المستوى تقلّ احتمالية انحرافهم وضلالهم، وحتى وإن انحرفوا؛ فإنهم سرعان ما يهرولون إلى ربهم ويتوجهون إليه ويبثّونه همومهم محاولين التخلّصَ من رجس آثامهم وأخطائهم بالتوبة والاستغفار.. فلو ظهرت في مكانٍ ما جماعةٌ من الناس على هذه الشاكلة والمستوى لأصبحوا المنبع الذي يفيض بالخير على من حوله.

إن الإنسانية اليوم في حاجة إلى مثل هذا الانبعاث، وفي حاجة إلى أناسٍ يستشعرون الدين في أعماقهم ويعايشونه في حياتهم مثل سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، فعلينا الانشغال بهذه المشاعر السامية على الدوام، والسعي إلى تفعيلها، والدعاء والتوسل إلى الله أن يستجيب لمطالبنا في هذا الأمر، أما ما سوى ذلك فهي أمورٌ ثانوية بالنسبة لنا.