معضلة الأسلوب في التبليغ

معضلة الأسلوب في التبليغ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

إن كلَّ مؤمنٍ مكلَّفٌ بتبليغ دينه في حدود قدراته ومؤهلاته وإمكاناته وموقعه، لكن معرفة الكتاب والسنة سطحيًّا لا يكفي وحده لتبليغ الدين، فلا بد من وضع خطة جيدة وتحديدِ ما ينبغي القيام به في البداية لتحقيق هذه الوظيفة المهمة، لكن للأسف لما لم يتّبع العديدُ من المسلمين اليوم المنهج السليم في الإرشاد والتبليغ صرفوا الناسَ عنهم، بل ونفّروهم من الدين، علمًا بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بَشِّرُوا وَلَا تُنفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعسِّرُوا”[1]، فمن الأهمية بمكان عدم التشديد في قضايا الدين، وعدم إشعار الناس بأنها شيء غير قابل للتطبيق، وعدم صرف الناس عنه.

إن الدين الإسلامي يقوم على اليُسْرِ والتيسير.. وإن الغلوَّ في الدين، والتنطّعَ فيه، وعدمَ مراعاة طبائع البشر وفطرتهم لهو أمرٌ يخالف روح الدين.. فقد أوصانا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بتجنّب الغلوّ في الدين، وأمرَنا بالتيسير والتبشير، ونهانا عن التعسير والتنفير، فينبغي للمؤمن الحقيقي أن يراعي ما يجذب الناسَ ويجتنبَ ما ينفّرهم، وأن يكون ديدنُه تيسيرَ الأمر على الدوام، وأن يحاول أن يكسب القلوب باللين والشفقة.

صرف الناس عن الدين

للأسف ينفِّر الكثيرون اليوم الناس من الدين بسبب شدتهم وغلظتهم.. ونظرًا لجهلهم بما يبلّغون ومتى وأين يبلغون، ولعدم تمكّنهم من تحديد الأسلوب الملائم لكلّ مخاطَبٍ يحصل لدى الناس استياءٌ ونفورٌ من القيم الدينية.

وإننا اليوم لنعاني أشدَّ المعاناة بسببِ عدمِ امتثالِ المسلمين بما فيه الكفاية لنهج النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ والدعوة، وعدم عرضهم القضايا الدينية بحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ كما ينبغي.. ولهذا السبب نفر الآخرون من الدين، وابتعدوا عن المسجد، وانتابهم الخوف والذعر منا بسبب لجوئنا إلى الشدّة والعنف والغِلظة والفظاظة في عرض القضايا الدينية؛ فانصرفوا عنا.

 لقد حطَّمْنا آمالَ الناس بأسلوبنا الخاطئ ومنهجِنا القاصر في التبليغ، إذ إننا لما كاشفْنا الناس بأخطائهم، وحكمنا بعدم أهليتهم وكفاءتهم، وصعَّبنا الدين عليهم؛ أخلَلْنا بالعلاقة بين الله تعالى وعباده، واضطررْنا إلى دفع فواتير باهظة بسبب أخطاء بسيطة وقعنا فيها.

وقد طرقَت أسماعَنا عباراتٌ مؤلمةٌ من قبيل: “ذهبتُ مرة إلى المسجد لأداء صلاة العيد، وليتني لم أذهب!”، كما شهدنا انصراف الكثيرين عن المسجد بسبب الإمام، كما أدّى كلام بعض الوعاظ إلى نفور البعض من الدين؛ وهذا يعني أننا نتعنّت في تبليغ أوامر الدين، فيا تُرى ما الأشياء السلبية التي تكلمنا فيها مع الناس فأبعدناهم عن الدين؟

لنضرب على ذلك مثالًا برجلٍ دخل المسجدَ مرَّةً واحدة لأداء صلاة العيد، فلو حدث وقلتم له: “طوال العام لا تغدو إلى المسجد، ولا تصلي الجُمَع! ثم تنتظر أن يعفو الله عنك لشهودك صلاة العيد فقط!”؛ فسيعتقد أنه من العبث مجيئُه، ولن تطأ قدمُه عتبةَ المسجد مرة أخرى.. بيد أن ما يقع على عاتق رجل الإرشاد والدعوة هو دعم مثل هذا الشخص بكلامه وأفعاله، والأخذ بيده، وعدم السماح بأن ينقطع عن المسجد مرة أخرى بعد ما وطِئَتْه قدمه.

ربما يتخذنا هؤلاء الأشخاص الذين جاؤوا إلينا وطرقوا بابنا مصاعدَ ومعارجَ يرتقون بها إلى الحقيقة، فأرادوا أن يسترشدوا بكلامنا وسلوكياتنا وأحوالنا وتمثيلنا كي يصلوا إلى حيث ينبغي، لكننا أخفْناهم بما رأوه وسمعوه منا وبما لاحظوه من أفعالنا وتصرفاتنا، فأبعدناهم عن الدين ونفّرناهم منه.. والحال أن ما يقع على عاتقنا هو التبشير وليس التنفير.. فإن لم تعرضوا المسألة على المخاطب على أنها شيء سهل وقابل للتطبيق لا سيما في بداية الأمر؛ فسيخاف منكم ويفرّ بعيدًا عنكم.. فمن الأهمية بمكان تيسير الأمر على الناس، وتحاشي تعقيده، وإظهارُه كفكرةٍ قابلةٍ للعيش والتطبيق.. فحتى ولو كنتم تخبرون الناس بأجمل الحقائق، وتضعونهم على الصواريخ والمركبات والطائرات التي تقلّهم إلى الجنة؛ فما زال يتعين عليكم التعامل برفق وعقلانية مع الأمر، وإلا فرّوا منكم، وابتعدوا عن الدين، وبالتالي يسقطون في الضلالة، ويتدحرجون في مهاوي الجحيم.

وبصورةٍ ما أصبحت الشدة والغلظة جزءًا من ثقافتنا، وشاع الضرب والشدة في المكاتب والمدارس ودورات تحفيظ القرآن الكريم، وصارت صورة الشيخ الممسك بالعصا شيئًا اعتياديًّا، فإن لم تُرَ العصا الطويلة بجانب الشيخ توهّم البعضُ قصورًا في المشيخة، ولكن الذين فرّوا من المسجد بسبب الضرب، وابتعدوا عن القرآن، ونأوا بأنفسهم عن الدين؛ ليسوا بالقليل على الإطلاق.. وأنا شخصيًّا أنزعجُ فطريًّا من الشدة والعنف، وإذا قوبلتُ بهذه المعاملة يومًا ما أنفر من مذاكرة دروسي ذلك اليوم، والواقع أن معظم الناس هكذا، فالعنف يصرف الناس عن الحقّ، ولكن للأسف أصبحْنا نقدّس الضرب بحجة أن “الضرب من الجنة”! والحقيقة أن في  الجنة حبًّا وودًّا وعفوًا ورحمةً، فالله تعالى يُذهب عن الإنسان كلَّ صنوفِ الغلّ والحقد والحسد والغضب والحزن، وبالتالي فهذه كلها تصوّرات خاطئة وأساليب غير صحيحة في المجتمع، وتنفير للعباد من ربهم، وليس من السهل تصحيح هذه الأخطاء.

النهج النبوي في ترغيب الناس بالدين

الإرشاد والتبليغ أساس مهمّ للغاية في الدين، بل هو مهمة الأنبياء؛ ولذا يجب على المؤمنين أن يعملوا كل ما بوسعهم لتحقيق هذا الأمر، ولكن لا ننسَ أن الدين هو الذي أمر بالإرشاد والتبليغ، وهو الذي يعلّمنا -أيضًا- كيفية القيام به، فلا يجوز أن ننحّي جانبًا حقائق القرآن الذهبية وبيانات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النورانية، ونضعَ إستراتيجيات توافق أهواءنا ورغباتنا.. فإذا ما عملنا بما يخالف نهج نبينا صلى الله عليه وسلم أبعدنا الناسَ -دون وعي مِنّا- عن الدين، فمهما كانت نوايانا، وطالما كان أسلوبنا فاسدًا ومنهجنا خاطئًا فسنتعرض للصفع خلاف مقصدنا.  

بناءً على ذلك فإن أسلم طريق ينبغي اتباعه في هذا الموضوع هو طريق سيد الأنام صلوات ربي وسلامه عليه.. فلقد قام صلى الله عليه وسلم بنشر تكاليف الدين على مدى ثلاث وعشرين سنة دون الإساءة لأحد أو إخافته، وقام بتأهيل الجميع فردًا فردًا، حتى جاء يوم أصبحوا يقومون فيه ربما بأشد التكاليف وأصعبها بحبٍّ وطواعيةٍ.. وبفضل هذا التدريب والتأهيل على مدى ثلاث وعشرين سنة أوصلهم إلى هذا المستوى الراقي، ففي جوٍّ كهذا نشأ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرون بالجنة والصحابة الكرام، ومن ورائهم التابعون الفخام، وتابعو التابعين، رضي الله عن الجميع، فلقد تخلّق هؤلاء بالأخلاق النبوية، فلم يتخلّوا بتاتًا حتى عن أدنى مسألة دينية، ووقفوا بحزم وصلابة أمام صفات الكفر، وبذلوا جهدهم من أجل محوِ الجحود والكفر من الأرض، وتعبيد الطريق لوصول الناس إلى ربهم، وفي النهاية عرّفوا الكثيرين بالحق والحقيقة.. وعلى ذلك فإن حلّ جميع المشاكل التي نشهدها في ساحة الإرشاد والتبليغ لا يكون إلا بالنهج المحمدي.

والواقع أن القرآن والسنة يحتفيان بأدلّةٍ متعدّدةٍ يمكننا أن نستخدمها في عملية الإرشاد والتبليغ، المهم هو تحديد ما يصلح منها لمخاطبة الناس على اختلاف طوائفهم ومستوياتهم، ولكن نظرًا لجهل بعض المسلمين اليوم بهذا، وعدم استعمال هذه الأدلة في مكانها الصحيح حدثَ نوعٌ من النفور إزاء القيم الدينية، بيد أن عرض مسائل الدين بأسلوب محفِّزٍ ومثيرٍ؛ له أهمية بالغة في التأثير على السامعين، فالدين ذو هويّة متكاملة من جميع الجوانب، ويخلو من أيّ نقصٍ أو عيبٍ، وما يقع على عاتقنا هو اتباع الأسلوب الأمثل في الإرشاد والتبليغ، ولفت أنظار الناس إلى جماليات الدين بأقوالنا وأفعالنا، وإن جاز التعبير فتح شهيتهم إلى الدين.

مريض دون مرض

يجب أن نضع في الاعتبار طبائع الناس عند تبليغ جماليات الدين، وتحديد الأسلوب الأمثل الملائم للجميع، والاستعانة بالشواهد والأدلة التي تتوافق مع الجميع على اختلاف فطرتهم وطبيعتهم، وإلا تساوت الدعوة إلى الدين مع التنفير منه، وانصرف الذين يُتوقَّع انجذابهم إلى النور الخالد صلى الله عليه وسلم عنه، وصار من المتعذر ردّهم إليه مرة أخرى.. ومن ثم ينبغي اتباع أسلوب معين حتى عند تبليغ حقيقة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” التي هي أصل المنهج؛ حتى لا نُفاجأ بنتائج غير مرغوب فيها.

وللأطباء قول نفيس: “لا يوجد مرض بل يوجد مريض”، ولا يعني هذا عدمَ التسليم بوجود المرض، ولكن لكل مريض مرضٌ مختلف؛ ولذلك يجب عند تشخيص أيِّ مرضٍ من وضع حال المريض بعين الاعتبار، ثم الشروع في التداوي، ولا تختلف مسألة الأسلوب في الإرشاد والتبليغ عن هذا.. فلا بدّ من تقييم وضعِ كلِّ مخاطبٍ بحسب طبيعته العامة وثقافته التي نشأ عليها، ووضع كلِّ هذا بعين الاعتبار عند التعامل معهم، فما يصلح لشخص لا يصلح للآخر، والمنهج المفيد لواحد قد يتسبب في ردِّ فعلٍ عند الآخر.

الأصل في الإرشاد والتبليغ هو إيصال “المعروف” إلى الأفئدة بكل جمالياته، وتبغيض الناس وتنفيرهم من “المنكر”؛ بتعبير آخر: إنقاذ الناس من الانحرافِ والسيرِ في طرق ملتوية، فإن لم تصحِّحْ أقوالُكم وأفعالُكم اعوجاجَهم وتسببت في انحرافات جديدة لديهم؛ فهذا يعني أنكم أضررتم بالدين، فإذا كانت الدعوة على لسان شخصٍ ما ستتسبّب في رد فعل لدى مخاطَبٍ معيَّن؛ فيجب تكليف شخص آخر بمخاطبته، وعلى الداعي أن يستسيغ هذا الأمر، فلا حقّ لكم في كسر خاطر أحدٍ أو إبعاده عن الدين بسبب أقوالكم وأفعالكم وتصرّفاتكم، فالصدقُ ومعرفة الحقيقة لهما أهمية بالغة.. ولكن لا بدّ من التعبير عن الحقيقة بشكلٍ صحيحٍ، أو الإعراض عن ذكرها أحيانًا وتحيّن الوقت المناسب للتعبير عنها فيما بعد.. فكما قال بديع الزمان سعيد النورسي: “عليك أن تقول الحقَّ في كلّ ما تقولُ ولكن ليس لك أن تُذيع كلَّ ما هو حق، وعليك أن تَصْدُقَ في كلِّ ما تتكلمه ولكن ليس صوابًا أن تعلن كلَّ حقيقة”[2].

فمع الأسف يقع الكثيرون ضحية لمثل هذه السلبيات، وقديمًا عندما كان يقابل أستاذٌ أستاذًا آخر يقول له: كم شخصًا قتلتَ”؛ يعني كم شخصًا نفرَ وابتعد من بيوت العلم والعرفان بسببك؟! وجعلته يُهلِك نفسه بنفسه؟! واجبُنا هو إزالة العوائق بين العباد ورب العباد سبحانه وتعالى، والأخذ بأيديهم إليه.. فإذا كان هذا واجبنا فإن عاقبتنا ستكون وخيمة إذا أبعدنا الناس عن ربهم بسبب أسلوبنا الخاطئ، أو شدّتنا وعنفنا وجهلنا بالأمر.. لا بدّ أن يتحلّى أسلوبُنا بالجاذبية التي تقرِّب الناس من الدين، فالحقّ والحقيقة لا يتحمّلان مطلقًا الأسلوبَ المبتذلَ، ولا الفظاظة والغلظة والوقاحة.

 

[1] صحيح البخاري، العلم، 11؛ صحيح مسلم، الجهاد، 6.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثاني والعشرون، ص 323.