حب الدنيا

حب الدنيا
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

حبُّ الدنيا لا حدود له عند الإنسان.. فالإنسان يتعلق بالدنيا ويركض وراء رغبات وأهواء لا تنتهي وكأنه لن يموت أبدًا، والعجيبُ أن هذه المشاعر لا تضعف ولا تقلّ أبدًا حتى وإن تقدم بالإنسان العمرُ، ففي الحديث الشريف: “لا يَزالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شابًّا في اثْنَتَيْنِ: في حُبِّ الدُّنْيا وطُولِ الأمَلِ”[1].

إن حبَّ الدنيا وطول الأمل أمورٌ يدعم ويغذّي بعضُها بعضًا، ومَن يحبّ الدنيا يعقدْ عليها آماله ويعشْ وكأنه سيُخلَّدُ فيها أبدًا.. فتوهُّمُ الخلودِ يأتي في المرحلة الأولى من طول الأمل.

وكما هو معلومٌ تحدّث بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله عن ثلاثة وجوه للدنيا[2]، وأشار إلى ضرورة الإعراض عن وجهها الذي ينظر إلى جسمانيتنا ويشحذ غفلتنا؛ لأن هذا الوجه هو الذي يجعلنا نركض وراء عرض الدنيا وكأننا سنخلد فيها، وهو الذي يُلهينا ويبعدنا عن ربنا عز وجل؛ بأن يُدخل في أذهاننا أوهامًا توحي بتوهّم الخلود.

ويُعرّف الأستاذ النورسي الدنيا في موضع آخر من رسائل النور فيقول: “الدنيا غدّارةٌ مكّارةٌ، إن متَّعَتْك مرّةً كلَّفَتْكَ وجرَّعَتْكَ ألفَ ألمٍ، وإن أطعمَتْك عنبًا مرّةً صفعَتْك ألفَ مرّة”[3]، وللأسف ينشد إنسان اليوم في هذه الدنيا الفانية ما يُكتسَب في الآخرة، ويحاول أن يناله في الدنيا.

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ

إن متاع الدنيا وملذّاتها المؤقتة يخدع الكثيرين، بل يمكن القول إن هذا الأمر قد ازداد بنسبة كبيرة في عصرِنا الراهن، وفي القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/3).. ومع أنَّ هذه الآية الكريمة قد نزلت في غير المؤمنين، وقصَدَت الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر، ويرون الدنيا كلَّ شيء؛ إلا أنه لا بدَّ للمسلمين أن يستلهموا منها الدروس والعبر.

وينبغي التوقّف عند أمرين مهمّين في هذه الآية: أولهما: هو صدّ الناس عن سبيل الله، والآخر: هو تعويج طريق الحقّ؛ وهذا يعني أن الإنسان الذي يؤْثر الحياة الدنيا على الآخرة عمدًا يتعرّض لإصابات خطيرة أو يُصاب بفيروسٍ من شأنه أن يدمّر حياته المعنوية دون وعيٍ منه، وإنسانٌ مصابٌ هكذا يتّخذ مع الوقت موقفًا مناهضًا للدين وللمؤمنين.. ولو رجعنا إلى كلام الأستاذ النورسي مرة أخرى نجده يقول: “إن في كلّ إثمٍ وخطيئةٍ طريقًا مؤدّيًا إلى الكفر، وكلُّ ذنبٍ يلج القلب يشقّ جروحًا غائرةً في قلوبنا، ويفجّر قروحًا داميةً في أرواحنا”[4]، ومن ثم لا بدَّ من تحديد خطِّ السير بشكل جيد للغاية في بداية الأمر، وتحقيق توازنٍ حقيقيٍّ بين الدنيا والآخرة.

إن الذي يجعل الدنيا هدفَه الأساس ومعشوقَه الحقيقي، ويقف بمعزلٍ عن الدين؛ يصلُ مع الزمن إلى نقطةٍ معيّنة، ويدخل في حلقةٍ مفرَغةٍ؛ بحيث إنه يظلّ بعيدًا عن الدين، ويسعى إلى صدِّ الآخرين عن سبيل الله أيضًا، وبذلك يحول دون وصول الناس إلى المعتَقَدِ الصحيح والفكر السليم؛ سواء كان ذلك عن قصدٍ منه أم لا.

 ثم إن مثل هذا الشخص يحرص على تعويجِ الطريق القويم الذي أرشدَ إليه الدينُ وتحريفِ مساره؛ فيتكلم ضدّ الدين، وينتقد القيم التي جاء بها الدين، ويصرف الناس عنها، ومن ثَمّ يقوده الطريقُ المعوجُّ الذي سلكه من البداية إلى أخطاء كبرى، ولو فتَّشْتم في أخيلتكم، وتجوَّلْتم داخل مجتمعكم، وراجعتم تجاربكم فستلاحظون أن نسبة كبيرة من هذه الأمور تحدث الآن، فالكثيرون ما زالوا يتخبطون في مثل هذا الغيِّ الذي انزلقوا فيه.

والواقع أن الحياة الدنيا ليست بالمكان الذي يجدرُ بالإنسان أن يختاره؛ لأن عاقبتها معروفة، فحتى ولو أراد الإنسان واجتهدَ فإنه لا ولن يستطيع البقاء في الدنيا على الدوام؛ فثمة رحلةٌ أمامه إلى القبر.. ولذلك يتحدّث بديع الزمان سعيد النورسي عن هؤلاء الذين يتشبّثون بالدنيا ويفضّلونها على كلّ شيءٍ بسبب طول الأمل وتوهّم الخلود فيقول: “يا أسفى! لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرّةً دائمة، وأضعْنا بهذا الظنّ كلَّ شيءٍ! نعم، إن هذه الحياة غفوةٌ قد مضت كرؤيا عابرة”[5].

وبما أن الدنيا قد انفتحت اليوم على الناس بكلِّ مفاتنها فقد انخدع بها الكثيرون، وعاشوا حياتهم وكأنهم خالدون فيها أبدًا، ولا جرم أن الركون إلى الدعة والراحة، والاشتغالَ بالأهل والعيال، والرغبةَ في العيش والبقاء؛ يصرف الناسَ عن شعور المجاهدة في سبيل دينهم.. لقد تسلّط حبُّ الدنيا على كثيرٍ من الناس، فدمَّر آخرتهم وجعلهم من الخاسرين.. ونظرًا لأنهم ركّزوا على الدنيا فقط، وأَوْلَوها كلَّ اهتمامهم؛ لم يستطيعوا التفكير أو رؤية شيءٍ آخر، ولو فعلوا فإن الدنيا تبدو أكثر جاذبيةً لهم، ولذلك فإنهم يستغلون اختياراتهم في هذا الاتجاه.

وإنهم بهذه النظرة يخسرون آخرتهم، كما يضيّقون الدنيا على أنفسهم، ويحوّلونها إلى سجنٍ لهم، فلا يجدون الراحة والسكينة فيها مطلقًا، وإنني أعجب من حال هؤلاء المولعين بالدينا! كيف ينغمسون في ملذّات الدنيا رغم علمهم بأن القبر يقف ماثلًا أمامهم بعظام السابقين النخرة، وأنهم عما قريب سيكونون تحت ترابٍ تنتشر فيه العقارب والحيات. ربما لا يتمكنون من فهم حقيقة الأمر بشكل كافٍ؛ بسبب ثملهم بالملذات الدنيوية أو لأنهم يعيشون نوعًا من التنويم المغناطيسي؛ وإلا فإن الحياة القصيرة التي تنتهي بالموت إلى القبر لا تُسمَّى حياة. وحياةٌ قصيرةٌ هكذا لا تكفي أن تُسعد الإنسانَ حتى ولو كانت قطعةً من الجنة، فما يجعل الجنةَ جنةً هو أبديتها، وارتباطُها بالله تعالى.

والملحدون مخدوعون تمامًا في هذه المسألة، بل وبعض المؤمنين أيضًا تغرّهم الحياة الدنيا فيفتنون بها، ويوجد أيضًا بين الذين كرسوا أنفسهم للغاية المثلى مَن استولت عليهم الدنيوية والعلمانية إلى حدٍّ ما، ولو اطّلعتم على حال أكثر الناس تديّنًا لوجدتم بينهم من يضع خططه وبرامجه وفقًا لدنياه؛ حيث أسَرَتْهم الراحة والركون إلى الدعة والخمول، وانهزموا أمام حرصهم وأطماعهم. فهذا الجرثوم الذي يعيش داخل الملحدين يصيب المؤمنين أيضًا ويُمرضهم روحيَّا، ويمكن القول إن هذا يقبع وراء كل سلوكٍ خاطئ.

الثبات والحزم أمام الدنيا

من أهم سبل الوقاية من شرور الأمراض المعنوية مثل حب الدنيا، والحرص والطمع فيها؛ تقويةُ الصلة بالله تعالى، فلو لم يقوِّ الإنسان صلته بالله تعالى بما يتناسب طرديًّا مع تقدمه في العمر فقد خسر في زمن هو أدعى للكسب، لقد كانت التكايا والزوايا قديمًا -وأقول قديمًا لأنها لم تعد في أيامنا تقوم بوظيفتها المنوطة بها- كانت تعطي جرعةَ مناعةٍ من تأثير مثل هذه الجراثيم، فكانت النفوس تجدُ من خلال التكايا والزوايا خلاصًا من هذه الأمراض بفضل تزكية النفس وتصفيتها وتنقيتها، لكن للأسف لم تعد هذه الفرصة متاحة الآن، فالكثيرون يركضون وراء دنياهم، ويعيشون حياتهم تبعًا لهواهم، حتى أصبح من المألوف إيثار الدنيا على الآخرة.. فالجميع يسعى بأقصى سرعة وراء الدنيا، لا همّ لهم سوى اقتناص أكبر قدرٍ منها، فإن لم ننتبه فمن الممكن أن نقع تحت التأثير الإشعاعي للأفكار والمشاعر الدنيوية، ونستهلك نِعَم الآخرة في الدنيا.

فمن الأهمية بمكان الوقوف في ثباتٍ وصمودٍ أمام الدنيا لا سيما في هذا العصر الذي تكشف فيه الدنيا عن مفاتنها المبهرة، وتُوقِعُ الناسَ في شباكها، ولكن هذا ليس سهلًا يسيرًا، فلا بدّ للذين يحسبون أنهم يتقدمون بخطى ثابتةٍ على أرضٍ تكثر فيها المزالق والعثرات أن يتوخّوا أعلى درجات الحذر، فثمة حاجة ماسة إلى بذل الجهد واستيفاء الإرادة حقّها، ندعو الله رب العالمين أن يثبت قلوبنا على دين الإسلام!

حاصل القول: إن الناس ولو شاخوا وتقدّم بهم العمر فإن حبّ الدنيا الكامن في داخلهم وتوهّم الخلود فيها، وغير ذلك من المشاعر لا تشيخ، بل تقوى وتزداد.. من أجل ذلك يجب بذل مزيد من الجهد لقمع هذه المشاعر الضارة وتهذيبها، والسبيل إلى ذلك هو التفكير في فناء الدنيا، ومحاسبة النفس، والشعور بالشوق إلى الله والآخرة، والتعلق بالعبادة، والاشتغال بالخدمة في سبيل الله كلّما زاد حبّ الدنيا والرغبة في المقام والمنصب وتوهّم الخلود، بهذا فقط يستطيع الإنسان حماية طريق سيره حتى نهاية العمر، فإن لم نتحكم في أهوائنا، ونحاسب أنفسنا، ونرغم النفس على عمل الصالحات؛ فلا يمكننا أن ندرك خطورة الأمراض المعنوية التي أشار إليها الحديث، ولا كيف أنها ستقلبنا رأسًا على عقب، حفظنا الله تعالى جميعًا من هذه العاقبة الوخيمة. آمين.

[1] صحيح البخاري، الرقاق، 5.

[2] الدنيا لها ثلاثة وجوه: الوجه الأول: ينظر إلى أسماء الله الحسنى ويبين آثار تلك الأسماء ونقوشها، وتؤدي الدنيا -بهذا الوجه- وظيفة مرآة لتلك الأسماء بالمعنى الحرفي، فهذا الوجه مكاتيب صمدانية لا تحد، لذا يستحق العشق لا النفور، لأنه في غاية الجمال. الوجه الثاني: وجه ينظر إلى الآخرة، فهو مزرعة الآخرة، مزرعة الجنة، موضع أزهار أزاهير الرحمة الإلهية، وهذا الوجه جميل كالوجه الأول يستحق المحبة لا التحقير. الوجه الثالث: وجه ينظر إلى أهواء الإنسان، ويكون ستار الغافلين، وموضع لعب أهل الدنيا وأهوائهم، هذا الوجه قبيح دميم، لأنه فانٍ، زائل، مؤلم، خداع. (الكلمات، الكلمة الثانية والثلاثون، ص 728).

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، ص 280.

[4] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الثانية، ص 11.

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السابعة عشرة، ص 247.