الانسلاخ من الأنانية

الانسلاخ من الأنانية
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

يذكر بديع الزمان سعيد النورسي في إحدى رسائله أن هذا العصر هو عصر الأنانية، ويوصي المسلمين بإذابة ﺃﻧﺎﻧﻴﺘهم ﻛﻘﻄﻌﺔ ﺛﻠﺞٍ ﻓﻲ حوض الشخص المعنوي المترشّح من المجموعة[1]، وبالرغم من أن إذابة الثلوج في القطبين -الشمالي والجنوبي- تضرّ بالتوازن البيئي إلا أن إذابة ثلوج الأنانية على العكس من ذلك، فلها منافع عديدة في حفظ التناغم على الأرض وسلامة المجتمع؛ لأن تفاقمَ الأنانية وتضخُّمَها سببٌ رئيسٌ من أسباب الصراعات والاضطرابات والخلافات في الأسرة والحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية.

وإذ يُشبّه بديعُ الزمان الأنانية بِكُرة الثلج فإنه لا يقتصر على الإشارة بأن إذابة الأنانية هي الهدف دونما توضيح، بل ويرشدنا إلى كيفية تحقيق ذلك فيقول: “منذ ثلاثين سنة وأنا أصارع طاغوتين: “أنا” في الإنسان، و”الطبيعة” في العالم، فللّه الشكر والحمد، وبتوفيق الأحد الصمد، وبفيض القرآن المجيد؛ تمخّضت المصارعة عن قتل الطاغوتين وكسر الصنمين”[2].

ولم يكتَفِ من هذه المسألة بِبَسْطِها نظريًّا، بل جسَّدَ عمليًّا بمعيشته وأطواره وسلوكياته السبيل إلى العبودية الحقة والتواضع ونكران الذات.. لقد حرّر مؤلَّفات خالدةً تهدف إلى إنقاذ إيمان الأجيال، وتوضّح لهم السبيل، ومع ذلك لم ينسب شيئًا إلى نفسه من هذه المؤلفات، بل كان يخاطب نفسه دائمًا بمثل هذه الكلمات التي لا تحتاج إلى مزيدٍ من الشرح والتحليل: “فيا نفسي! لا تقولي: إنني مظهر الجمال، فالذي ينال الجمال يكون جميلًا. كلا، إنكِ لم تتمثّلي الجمال تمثُّلًا تامًّا، فلا تكونين مظهرًا له بل ممرًّا إليه.. ولا تقولي أيضًا: إنني قد اُنتُخبتُ من دون الناس كلهم، وهذه الثمرات إنما تظهر بواسطتي، بمعنى أن لي فضلًا ومزيّة! كلا، وحاشَا لله، بل قد أُعطيتِ تلك الثمرات لأنكِ أحوج الناس إليها، وأكثرهم إفلاسًا وأكثرهم تألّمًا”[3].

ومؤلفاته المعروفة بـ”رسائل النور” مشحونة بمثل هذه المحاسبات والمواجهات مع النفس.. فمثلًا يقول في موضع آخر: “يا نفسي المرائية! لا تغترّي قائلة: إنني خدمت الدين، فإن الحديث الشريف صريحٌ بـ”أَنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ[4]، فعليكِ أن تعدّي نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لأنكِ غير مزكَّاة”[5].

وما أقلّ الذين يجاهدون أنفسهم ويصارعونها ويسعون إلى تربيتها وتزكيتها مثل بديع الزمان! أحيانًا كان الأستاذ النورسي يتحدّث بنعم الله تعالى وفضله عليه، فيظنّه البعض -ممن لا يعرفونه- أنه يفعل ذلك افتخارًا ورياءً، والحال أنه رجل التوحيد الكامل الذي بلغ الذروة في عدم الاعتداد بالنفس، وعدم الاكتراث بها، وفي نسبةِ جميع الجماليات والألطاف إلى صاحبها الحقيقي، وما كان يهدف من تحديثه بنعمة الله عليه توجيهَ الأنظار إليه، بل تقوية الروح المعنوية لأولئك المحيطين به الذين يعيشون تحت الضغط والاضطهاد.

والواقع أن أصل العديد من المشاكل الأخلاقية والبشرية هو الابتعاد عن الله وعدم الالتزام بما يجب تجاهه؛ لأن من لا يعرف الله ولا يدرك عظمته وكبرياءه يداخله الكبر والغرور، ويتوهّم العظمة في نفسه، ولهذا أكد بديع الزمان سعيد النورسي في مؤلفاته على الإيمان بالله ومعرفة الله ومحبة الله، وحاول تعريف العباد به سبحانه وبأسمائه وصفاته. أجل، إن من يصل إلى شعور إيماني عميق بحقّ الذات الإلهية يرتقي في مدارج حياة القلب والروح، وينسلخ من الأنانية.

إن جوهر العبودية يتجلّى في قدرةِ الإنسان على تحديد وضعه وموقفه بشكلٍ صحيحٍ إزاء الحقّ سبحانه وتعالى، وشعورِه بعجزِه وفقره، وإدراكِه أنه لا شيء أمام الله تعالى الذي هو كلّ شيءٍ.. قد يسيء البعضُ فهمَ هذا ويرى أنه معقَّد، لكنّنا لا نتكلّم عن موقفنا تجاه هذا أو ذاك من بني البشر، وإنما نحاول تحديد موقفنا تجاه الخالق سبحانه وتعالى صاحب القدرة المطلقة والإرادة غير المحدودة، الذي يقلّب السماوات والأرض كحبّات السبحة؛ لنؤكّد على أننا لا شيءَ بالمقارنةِ مع الأبدي السرمدي اللامتناهي جلَّ شأنُه، وأن كلّ ما نتمتّع به من جماليّات ناشئٌ عنه سبحانه وتعالى.

فإن كنا نريد أن نتخلّص من هذا الجوّ الضيّق الخانق للأنانية فعلينا أن ننوِّر مجالسنا بذكر الحبيب المحبوب سبحانه وتعالى على الدوام، وأن ننسى أنفسنا، ونربطَ كلَّ شيءٍ به جلَّ وعلا، وأن تتعلّق أنظارُنا وقلوبنا به سبحانه وتعالى، فالقضايا التي لا علاقة لها به تعالى هي قضايا ثانوية مهما بدا حجمها كبيرًا، وقيمةُ القضايا الثانوية في الواقع تعتمد على مدى ارتباطها بالله سبحانه وتعالى.. إننا نجتمع أحيانًا ونتذاكر بعض القضايا لساعات طويلة، ولكن إن لم يَدُرْ حديثُنا حول الحقائق الإلهية للحبيب سبحانه وتعالى؛ فستظهر الأنانية، وستلوحُ في الأفق المواقفُ النرجسيّة، وينشأ التوتّر، وتُنزع البركة، ولا يُتوصَّل إلى النتائج المرجوّة.

فإن أثريتم مجالسكم وعمّقتموها بالقرآن والذكر والعبادات والطاعات والتفكّر والدعاء ومطالعة الكتب فسيضفي الحقُّ سبحانه وتعالى أبعادًا متنوّعة على عزمكم وجهدكم وإصراركم وسعيكم، ويوفّقكم سبحانه إلى تحقيق الأمور التي عزمتم عليها وجعلتموها غايتكم المثلى.. إنني لا أريد أن أسيءَ الظنّ بالآخرين فأقترف ذنبًا، ولكن عليّ أن أقول: إن لديّ قلقًا ومخاوف بالغة بشأن استمرار اجتماعاتنا ومباحثاتنا واستشاراتنا على هذا المنوال؛ حيث يخيَّل إليّ أننا لا نستطيع حبك نسيج أفكارنا بذكر المحبوب سبحانه وتعالى.. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم قدرتنا على التخلّص من الأنانية، وإلى محاولتنا ردَّ كلِّ شيءٍ إلى أنفسنا، وانشغالِنا بأفكار نفسيّة مزاجيّة؛ ولذلك لا نجد بركةً فيما نقوم به من أعمال.

بناءً على ذلك لا يمكن القول إننا بذلنا جهدًا كافيًا للتخلّص من الأنانية، وجعلِ التواضع ونكران الذات جزءًا من طبيعتنا.. ربما لا يدرك الكثيرون ما يحملونه من أنانية، ولذا لا ينزعجون منها، ولا يبذلون جهدًا ولا يعملون على أنفسهم للتخلّص منها. أجل، كم إنسانًا رفع يديه إلى الله قائلًا في تحسّر وتضرّع: “إلهي! ما لي غيرك! فخلّصني من براثن هذا الوحش المسمى بالأنانية!”.. وفي الحقيقة فقد كانت هذه هي أهمّ وظائف التكايا والزوايا قديمًا؛ لقد كان الناس فيها يقومون بمجاهداتٍ وخلواتٍ ورياضاتٍ روحيّةٍ وسَيرٍ وسلوكٍ وغير ذلك من أجل التخلّص من أنانياتهم التي شكّلت جدارًا سميكًا بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

لا سبيل للوصول إلى الله طالما لم يتخلّ الإنسانُ عن نفسه، أما المهووس بنفسه، الذي يعيش في عالمه الخاص، ويتحدّث عن نفسه في حلّه وترحاله؛ فلا يمكن أن يصل إلى المعيّة الإلهية.. فلو كنا نريد أن نجد الله في قلوبنا ونتوجّه إليه بكلّ كياننا فلا بدّ أن نتخلّص من كلِّ العقبات التي تحول بيننا وبينه تعالى.. فلو كنا نرجو القرب والمعية -لا سيما في هذا العصر الذي أُلِّهت فيه الأنانية- فعلينا أولًا أن نبذل جهدًا مضاعَفًا من أجل الانسلاخ من براثن الأنانية.. لقد تخلّفنا -مع الأسف- عن الطرق التي ينبغي قطعُها معنويًّا لأنّنا لا نتعامل مع هذه الأمور بحقيقتها وحجمها الحقيقي.

ونظرًا لأننا لم نفكّر في هذا الأمر بما فيه الكفاية، ولم نمرِّرْ أقوالَنا وأعمالنا من مصفاة المحاسبة والمراقبة؛ لم نستطعْ أن ندرك كيف تسلّلت الأنانية بخبثٍ إلى أكثر نوايانا صدقًا، وأعظم عباداتنا إخلاصًا، وأكثر خدماتنا تضحيةً وفداءً.. إننا لا يمكن أن نفوز بالإخلاص أو نسْلَم من وساوس النفس دون جهادٍ دائمٍ وعميقٍ، المهمّ هو أن نُخلِص في الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فوصولُ الأعمال إلى قيمةٍ تعلو القيم عند الله تعالى يعتمد على هذا الأمر، وكلُّ ما سوى ذلك عبثٌ لا طائل من ورائه بالنسبة للمؤمن، فالأصل هو مرضاة الله تعالى ورضاه والفوز بمحبته.. فيجب على الإنسان أن يستهدف هذه الغاية طوال حياته، وأن يسعى وراءها على الدوام، فإن ركّزنا كلَّ رغباتنا وطلباتنا على هذه النقطة، ونجحنا في تحقيق ذلك؛ فستتفتت أنانيّتنا، وتذوب وتتلاشى.

يجدرُ بنا أن نستمرَّ في تذكير بعضِنا بهذه القضايا التي حاولتُ عرضها، وأن نعبِّر عنها في كلِّ مكان، وأن نعيد تأهيل أنفسنا في هذه المرحلة.. فإذا انحرَفَتْ محاوراتُنا ومباحثاتُنا عن إطارها قليلًا فلا بدّ أن نعيدها إليه مرّةً أخرى دون أن نؤذي أحدًا أو نسيءَ إلى أحدٍ، ولا ننسَ أبدًا المصدرَ الذي تتفجّر منه النعم، فلو أننا تخلّصْنا من أنانيّتنا، ونسَبْنا كلَّ شيءٍ إلى الله، وربطْنا كلَّ أمورِنا به، وأدَّينا عبوديَّتنا بإخلاصٍ؛ فسيتكرّم الله تعالى علينا بنعمٍ تفوق ما أنعم به علينا حتى الآن دون أن يلتفتَ إلى صغرنا وضعفِنا وعَدَمِنا؛ لأن تحميل الأشياء الصغيرة مهامَّ عظيمةً من شأنه سبحانه وتعالى.. لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير.

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ملحق قسطموني، ص 147.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المثنوي العربي النوري، ص 225.

[3] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الثامنة عشرة، ص 248.

[4] صحيح البخاري، الجهاد والسير، 182؛ صحيح مسلم، الإيمان، 178.

[5] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة السادسة والعشرون، ص 543.