الشورى ومسؤولية القادة

الشورى ومسؤولية القادة
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

لقد ورثنا عن الماضي ثقافة ثرية، وقيمًا ثابتة، ومصادر مرجعية قوية، ولدينا من المبادئ والقواعد ما نستطيع به قياس وموازنة أحوالنا وأفعالنا وكلامنا وخطاباتنا، كما أننا أبناء ثقافة وحضارة أقامت على مرّ التاريخ دولًا قوية وقدمت خدمات جليلة للدين الإسلامي المبين، فإذا استطعنا استثمار كلّ هذه المقومات التي نملكها بشكل صحيح فلن نحتار أبدًا -بفضل الله وعنايته- في تحديد وجهتنا وطريقنا.

تفسير الدين وفقه السيرة

ومع هذا فلا ننسَ أننا نعيش اليوم في عالمٍ مختلفٍ تمامًا، وهذا يضطرنا إلى تفسير ما لدينا من قيم عالمية حسب ظروف عصرنا، وإلى تحديد الفرق بين المنهج الذي كنا نتبعه بالأمس والمنهج الذي نسير عليه اليوم، وإلى أن ننظر بعين الاعتبار إلى الفرق بين المنهجين، وأن نعيد تقييم القضايا دون تجاهلٍ لهذا الفرق.

وقناعتي أن سبر أغوار السيرة له أهمية بالغة في إعادة تفسير الدين، وتقديمه بما يتناسب مع مفهوم العصر.. فمن الضروري فهم الفلسفة الأساسية للحياة التي كان يعيشها المسلمون في عصر السعادة تحت ريادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ما نقلْنا ما في عصر السعادة بتمامه وبكل حذافيره وعملْنا على تطبيقه دون فهمٍ فقد يتعارض مع روح الدين.. بناء على ذلك يجب استيعاب الأحداث التي وقعت في هذا العهد بكل خلفياتها استيعابًا جيّدًا، واستنباط المبادئ والضوابط، ثم تطبيقها على عصرنا الحاضر.. فإن فعلنا ذلك استطعنا تحديد الطريقة والمنهج والمسار الذي يتناسب مع روح الدين في العديد من الموضوعات التي نشعر بحاجتنا الماسة إليها الآن مثل: محاربة الآثام والمنكرات، ومهمة الإرشاد والتبليغ، والتسامح والحوار.

أجل، من الأهمية بمكان مراعاةُ ظروف العصر والوضع الراهن عند دراسةِ وتفسير الضوابط التي نتمتع بها، وتكييفُها مع ظروف اليوم، ولكن لا ننسَ أن هذا ليس بالأمر الهين، فلو لم ننظر نظرة شمولية إلى الكتاب والسنة، ولم نستوعب روح الدين؛ لظهر العديد من الأخطاء نتيجة ذلك.. وكما لا يُستحقر شيءٌ من البرّ والمعروف؛ فكذلك لا يستصغر شيء من الخطإ والذنوب؛ لأننا إن لم نكترث بالأخطاء الصغيرة نشأت الأخطاء الكبيرة المدمّرة.

لا بد من موازنة ما هو صغير أو ما هو كبير بالنتائج التي تسفر عنهما، فأحيانًا ينتج عن الزاوية الصغيرة في المركز زاويةٌ كبيرةٌ في المحيط، فمثلًا لو لم تأخذوا بمبدإ الشورى، وتحركتم بناء على الاجتهاد الشخصي أو العواطف الذاتية، ونزلتم من فوق “جبل الرماة”، لكانت عاقبة ذلك وخيمة جدًّا ونتيجته خطيرة للغاية.. ولذلك فإنّ أسلمَ الطرق -كما كرّرنا مرارًا- هو إحالة الأمر إلى هيئةٍ تتولّى فحصَه ودراسته، لأن بوارقَ الحقائق تسطع من تبادل الأفكار وتداولها، أما إحالة الأمور إلى القناعات الشخصية فاحتمالية الخطإ فيها كبيرة للغاية.

حق المكانة

وفي هذا الصدد تقع على عاتق من يشغلون منصب المرشدين والقادة أعباءٌ ثقيلة، فلا يخفى ما تكتنفه آراؤهم وتفسيراتهم وتمثيلاتهم وأحوالهم وأفعالهم من أهمية كبيرة؛ لأن الخلَف سيقتفي أثرهم، فإن أحسنوا السيرَ قصَّ هؤلاء الخلفُ إثرهم، ولكن لو انحرفوا واقترفوا بعض الأخطاء؛ انعكس ذلك على مَن خلفهم.. علاوة على ذلك فإن الأخطاء التي يرتكبونها أو التصرفات التي يقومون بها ويُحتمل تأويلها بشكلٍ سلبي؛ إذا تلقفتها القاعدة الشعبية تفاقمت وتعاظمت.. ومن ثَمّ يجب على هؤلاء الروّاد والقادة أن يراعوا ذلك في أحاديثهم وتحرّكاتهم؛ حتى يكونوا مرشدين كاملين يذلِّلون الصعاب أمام أتباعهم، ويسيرون بهم في الاتجاه الصحيح، ويأخذون بأيديهم إلى الأهداف الصحيحة.

قد لا يستطيع بعض أصحاب المناصب الوفاء بحقّ المنصب الذي يتبوّؤونه، ولا يقدرون على التفكير فيما يتطلّبه هذا المنصب، ولا يقومون بالسلوكيّات والتصرّفات التي يقتضيها، ومن ثم تحدث بعض التصدعات والشروخ في المجتمع، ولا شك أن الانحرافات الفكرية، وزلات الألسنة، ولغو الكلام، والأقاويل البعيدة عن المقصد التي تصدر عن هؤلاء أصحاب المنصب؛ قد تؤدي إلى نتائج أشد خطورة عندما تتلقّفها القاعدة الشعبية، فمثلما تصل حمولة عشرة كيلو جرامات إلى أربعين كيلو جرامًا عند سقوطها من مترين؛ وكذلك فإنّ أيّ كلمةٍ نابيةٍ أو فعلٍ غير لائق يصدر من هؤلاء الذين يشغلون منصبًا قياديًّا قد يتسبب في ظهور مشاعر الحقد والكراهية بين أفراد المجتمع، ولهذا يجب على أصحاب المنصب والإدارة أينما كانوا أن يراعوا الدقة في أحوالهم وتصرفاتهم.

حتى لا نقول “ليت”

من الضروري لنا جميعًا -ولا سيما القادة والزعماء- أن نعيش على الاستقامة حتى إذا ما واجهتنا مشكلة يتعذّر تلافيها بالنسبة لنا ولأمتنا لا ننظرْ إلى الوراء ولا نقلْ: “ليتنا فعلنا هذا ولم نفعل ذاك!”؛ فإنه لا فائدة من وراء التحسّر على ما فات، ولذا ينبغي أن نعيش حياتنا الحاضرة بحذر وعنايةٍ فائقة، وأن نحاول ضبط كلامنا ومواقفنا وأفعالنا على نحوٍ لا يضطرنا إلى تصحيحها في المستقبل.

وإن الضمان الوحيد لتفادي الأخطاء وتسيير الأمور في الاتجاه الصحيح هو الشورى. أجل، فكما كررنا مرارًا: “مَا خَابَ مَنْ اسْتَشَارَ”.. فيجب على الجميع لا سيما الذين يشغلون منصبًا قياديًّا أن يتزينوا بالتواضع ويحرصوا على استشارة غيرهم في كلِّ نازلة، فأيًّا كانت هذه النازلةُ أو الموقف عليهم أن يشكلوا هيئةً للشورى من أصحاب الخبرة والمعرفة، وألا يتخذوا قرارًا دون استشارتهم، وأن يحاولوا التوصل إلى أكثر الحلول عقلانية ومنطقية عن طريق المشورة، ولا يتركوا المسائل التي تهمّ العامة إلى القناعات الذاتية التي تجلب الكثير من الأخطاء غالبًا، وإلا يكونون بذلك قد اعتدوا على حقّ العامة؛ ففي الفقه الإسلامي يُعتبَر حقُّ الجمهور أو الحقُّ العام حقًّا لله على اعتبار أن هذا الحقّ ليس له مالك معيّن، وهذا ما يكشف عن خطورة المسألة.

فمع الأسف نجد أن مَن يشغل منصبًا أو مقامًا معينًا يقول أحيانًا: “أنا أفضل مَن يعرف”، فيتصرّف تبعًا لفكره وهواه، وبالتالي يكثر خطؤه، ألا يعلم أنه قد يوجد من هو أكثر فطنةً وعقلًا منه! ومن ينظر إلى المسائل نظرة أكثر شمولية منه؟! ولذا فإن القرارات التي تتخذها هيئة الشورى تكون غالبًا أكثر قربًا من الحقيقة وأبعد ما تكون عن الخطإ مقارنةً بالقرارات التي يتخذها فرد واحد؛ لأن الإنسان مهما كان ذكيًّا فطنًا فإنه لا يستطيع أن يضبط وجهته دائمًا، وقد يظنّ المفسدة هي عين المصلحة، والحال أن ما يراه مصلحةً ونفعًا بالنسبة له قد يدخل في باب المصلحة المردودة، أي التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار؛ وعليه قد يُصدر أحكامًا تتعارض مع روح الدين، ولا يخفى أن الأنانية والكسل والعناد والخوف وغير ذلك من العوامل تبعد الإنسانَ عن المعقولية؛ لذا يجب على الذين يشغلون هذه المناصب الرجوع إلى أفكار الآخرين والاستعانة بمشورتهم، لا الثقة بعقولهم أنفسهم وقناعاتهم الذاتية فقط.

فإن كنتم تريدون الابتعاد عن الشرك فعليكم أن تعتادوا قول “نحن”.. إننا كل يوم نقرأ في صلواتنا سورة الفاتحة أربعين مرة، وفي كل مرة نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/5)، بمعنى أننا نعبر بضمير الجمع لا بضمير المفرد؛ لأنه ليس للإنسان أن يرجو التوفيق من الله إلا إذا عمل على إرساء الأخوة الحقيقية، وتقاسمَ مع الآخرين الأعباء الكبيرة الجسيمة، وصَبَّ حسنات رفاقه في حوض حسناته.

إن فوز أصحاب المقامات والمناصب العليا في الآخرة مرهون بمعيشتهم رغمًا عن أنفسهم، فإذا عاشوا من أجل تلبية رغبات أبدانهم وفلسفاتهم وحساباتهم الشخصية خسروا وبطلت أعمالهم. فكما ورد في الحديث الشريف أن أول السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: الإمام العادل؛ لأنه من الصعب جدًّا على مَن يمثِّل الإدارة والقوة، ومن بيده مقدرات الأمة كلها، ومن يجري النعيم حوله كالأنهار ألا يحيد عن الاستقامة والعدالة والمروءة والإنسانية؛ فهذا ابتلاء جدُّ عسير لا ينجو منه إلا من عاش رغمًا عن نفسه، متمردًا على أهوائه وشهواته، فإذا نجح ذلك الشخص في الامتحان وتجاوز تلك الصعاب؛ حظي في الآخرة بألطاف خاصة من الله سبحانه وتعالى..

 ومن أهم الطرق التي تعمل على الوفاء بحق المنصب وتحقّق العدالة؛ هو تمريرُ القرارات والآراء والخيارات من مصفاة الشورى، أو ما يمكن أن نسميه معيار الشورى؛ لأن العثور على الصوت الحقيقي والنغمة المتزنة والإشارة الصحيحة يعتمد على معايرة الأمور بميزان الشورى.