الخدمة عليك والنتيجة على الله

الخدمة عليك والنتيجة على الله
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   السؤال: يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (سورة الرعد: 13/40). فما الرسائل التي تبثها هذه الآية الكريمة للمؤمنين؟

   الجواب: لنقف بدايةً على المفهوم السامي لهذه الآية بإيجاز: يذكر ربنا سبحانه وتعالى في قوله ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ أنه سيُري نبيَّه صلى الله عليه وسلم بعضًا من البلايا العظيمة والعواقبَ الوخيمة التي سيُمنى بها المنكرون والمشركون، فما الوعيد الذي تسوقه هذه الآية للمنكرين، وفي المقابل ضمنيًّا ما هي البشارة التي تعدُ بها المؤمنين؟

إن دخول الناس في دين الله أفواجًا، وانكسار شوكة الكفر والشرك، وانهزام الكافرين والمشركين أمام الإسلام والمسلمين، وخفقان راية الإسلام عالية في كل جنبات الأرض، وارتفاعَ الأذان المحمدي من مآذن الأرض إلى أعالي السماء، وإرساء الحق والعدالة والسلام والطمأنينة في الأرض مرة أخرى، واندحار الظلم والقمع والاضطهاد؛ كل هذا سيتحقق في ضوء التشريع الذي وضعه الله تعالى، وبفضل تبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التشريع وتجسيده دون نقص أو تقصير.. ولذلك تذكر الآية أن الله سبحانه وتعالى قد يُطلِعُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم على بعض هذه الجماليات التي ستتحقق في المستقبل.

ولكن مع تتمة الآية يقول سبحانه: ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ إشارة إلى أن ربنا جل وعلا قد يستدعي سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرتِه قبل أن يريه كلَّ هذه الجماليات التي وعد بها؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل طوال حياته السنية يبلّغ رسالة ربه التي عهد بها إليه حتى أكملَها وأتمها، ولا ريب أن ربنا سبحانه وتعالى لن يضيّع مساعيه عبثًا، وسيوافيه أجره عليها كاملًا غير منقوص، وحتى وإن لم يشهد نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كلّ الجماليات التي وعِد بها في الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى سيثيبه عليها جميعها حتى وإن ظهرت وظفر بها الآخرون من بعده، فلربما يحصد الآخرون ثمار البذور التي نثرها، ويقوم آخرون بحفظها في مستودعها، ولكنه سينال ثواب كل هذا تامًّا غير منقوص.

ويمكن أن نقول هنا إن هذه العبارة تتضمّن أيضًا معنى: “أننا سنتمّ عليك أفضالَنا دون أن ننقص منها شيئًا”، وإن كان المعنى الأول هو الأرجح إلا أن هذا المعنى يشير أيضًا إلى حقيقة مهمّة.

وسواء أكان المعنى هذا أو ذاك فالنتيجة لا تعنيك، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾، أي تبليغ الحق والحقيقة إلى الناس، وتمثيل جماليات الإسلام على الوجه الأكمل، ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾.

ولمزيدٍ من الإيضاح نقول: “لا تُغرِق نفسَك في مثل هذه الحسابات، ولا تقل: “لو فعلتُ كذا لكان كذا”، لا تشغل نفسك بذلك، اشغل نفسك بمهمّتك فقط، وأعط وظيفتك حقّها، وركِّزْ على ما يسعك تحقيقه تبعًا للظروف التي تتواجد فيها، فأنت لا تدري بعد أن تنتقل إلى أفق روحك كم من الألطاف والمفاجآت تنتظرك، وكم من دول ستُقام، وكم من أنظمةٍ باطلة ستُقوَّض وتندثر! ولكن لا تضع حسابًا لكل هذا، فكلها أمور مدونة بصحيفة أعمالك عند ربك، فما عليك إلا أن تحسب حساب صحيفتك.

وقد قررت الأحداث التاريخية وأكدت هذا المعنى الذي أفادته الآية الكريمة، فقد وضع سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البذرةَ في حياته السنية، وعندما رحل إلى أفق روحه لم تكن رسالته قد امتدّت إلى خارج مهدها، فالإمبراطوريتان الساسانية والرومانية في الشرق والغرب كانت القوة لا تزال بأيديهما، والعالم يخضع لسلطانهما، فدخلت العديد من الدول تحت حمايتهما، وخضعت لنفوذهما، ولكن بفضل البذور التي نثرها مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بفضل الله وعنايته ظهر المسلمون كقوة، ولاحت شمس الإسلام حتى في مواطن نفوذِ هاتين الإمبراطوريتين.

وبالمناسبة يجب هنا أن نؤكد على مسألة مهمة، وهي أن البعض -في المناطق التي شرُفت بالإسلام بفضل الجيوش المبتعثة من قِبَلِ سيدنا عمر رضي الله عنه؛ فنالت عزها وانفتحت آفاقها- يضمرون عداوة كبيرة لسيدنا عمر رضي الله عنه، وبدلًا من أن يتوجهوا له بكل تقدير واحترام، ويدينوا له بالوفاء والولاء، ويحملوا له كلّ مشاعر الشكر والامتنان إذ بهم يرونه -حاشاه- جديرًا بكل إهانة واحتقار، على حين أنه لولا سيدنا عمر رضي الله عنه فمن يدري فربما كانوا ما يزالون يعبدون النار، ويؤمنون بالخرافات، ويتبنّون الاعتقادات الباطلة، فيا ليتهم يعرفون أنهم ما وصلوا إلى الإسلام الذي يعايشونه بهذه الطريقة أو تلك إلا على يد سيدنا عمر رضي الله عنه، ويا ليتهم يقرون له بالجميل!

إن نبينا صلى الله عليه وسلم بمقتضى هذه الآية قد ألقى البذور، ورحل إلى ربه دون أن يلتفت وراءه، فتحوّلت هذه البذور بإذن الله وعنايته إلى شتلات، حتى صارت أشجارَ دلبٍ تمتد أغصانها ذات اليمين وذات الشمال، يُذكر عن “كارل ماركس” المعروف بعداوته الشديدة للإسلام والمسلمين أنه تكلم عن عشرين دولة تشكلوا من خلال هذه البذور التي نثرها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفضل هذه البذور أيضًا تشكلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم العديدُ من المجتمعات والشعوب والدول التي تتبنّى الكثير من الفلسفات الجديدة والأنماط الفكرية والرؤى العالمية المختلفة، وأخرجت القيمُ السماويةُ التي قدمها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبشرية الكثير من العلماء والأدباء والفنانين والقادة ورجال الدولة، وغيرت هذه القيم مصير البشرية.

والخطاب في هذه الآية كما في الكثير من آيات القرآن الكريم موجَّهٌ إلى جميع المؤمنين في شخصِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجدر أن نقول إن المقصد الأساس في الآية هو تعليم المؤمنين أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم المنهجَ الفكري السليم، أو كما يقول المثل العربي الشهير -لو جاز التعبير-: “إياكَ أعني واسمعي يا جارة”، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على وعي بهذه المسألة في الأصل، فقد كان يؤدي وظيفته، ولا يتدخل في شؤون الربوبية، لأنه أصدق ممثل لها، لكن هناك أمور يُخاطَب بها المسلمون في شخص النبي صلى الله عليه وسلم على اعتبار أنه الممثل للدين والمبلّغ له، فلو لم نعدّ أوامرَ القرآن الموجهة لنبي القرآن صلى الله عليه وسلم خطابًا مباشرًا لنا لتعذر علينا أن نفهم رسالة ربنا بكل أعماقها وأبعادها.

وفي هذا الصدد يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “إن الذين يعملون في طريق الـحق ويـجاهدون في سبيلـه، في الوقت الذي ينبغي لـهم أن يفكروا في واجبهم وعملـهم فإنهم يفكرون فيـما يـخصّ شؤون الله سبـحانه وتدبيره، ويبنون أعمالـهم عليه فيـخطئون، فعلى الـمرء أن يؤدّي واجبه ولا يتدخل بتدبير الله سبـحانه وقَدَره”[1].

وهذه الفكرة بالغة الأهمية بالنسبة لمن نذروا أنفسهم اليوم للخدمة الإيمانية والقرآنية، فما يقع على عاتقهم هو بث إلهامات أرواحهم في الصدور المحرومة، وتبليغ قيمهم إلى كل أنحاء العالم، وتوصيل أصواتهم إلى الجميع، أما بالنسبة لعاقبة هذا ونتيجته؛ متى وكيف يكون، فهذا أمرٌ يرجع إلى الله عز وجل لا غير، وما يقع على عاتقنا هو عدم التفكير في كل هذا، يجب أن يكون أساس مهمتنا هو الدستور القائل: “ألق البذرة، وليرعها من يرعاها، وليحصدها من يحصدها، وليحفظها في مستودعها من يحفظها”، بل ينبغي للإنسان أن يرحل عن الدنيا ناسيًا أو متناسيًا ما فعل من خيرات، إلى أن يصعب حتى على الذين يقتفون الآثار معرفة واقتفاء أثر نسبة ذلك إليه، يجب أن تظل الأسئلة من قبيل “مَن ألقى هذه البذرة؟ مَن غرس هذه الشتلة؟” بلا جواب.. فكل هذا ليس مهمًّا، فحتى وإن كان فاعلُها مطمورًا فستذكره الأمة كذكرى جميلة، وتقول: “جزى الله خيرًا من ألقى هذه البذور أيًّا كان هو”.

فلو ملكت هذه الأفكارُ والمشاعرُ على الإنسان جوانحه، فسيعيش بوعي الوظيفة وأداء الواجب فقط، وسيفكر في كيفية استغلاله لموقعه بشكل مثمر، وسينشغل فقط بأداء الأعمال والخدمات التي يتيحها له موقعه ووظيفته، وسيحاول استغلال الإمكانات التي بحوزته بقدر ما يستطيع، وسيعمل على اقتناص الفرص التي تواتيه، ولن يتشوف إلى أي أجر أو مقابل لكل ما يقوم به من خدمات، فإذا حان أجله انسلخ من الدنيا ورحل عنها دون أن يلتفت وراءه، مطمئنًّا لكونه قام بالمسؤوليات التي تقع على عاتقه، ولا ينتظر حتى أن يقول الناس عنه وهم يصلون عليه الجنازة: “اللهم إننا راضون عنه”، لأن مثل هذا التشوف في الدنيا يُعدّ بمثابة عقبة كؤود أمام ما ينتظره في الآخرة؛ فما يكتسبه الإنسان من نِعم دنيوية يقلِّل بقدره من نعم الآخرة.

ولذلك نرى مهموم هذا العصر الذي ظل حريصًا على الإخلاص طوال حياته، وعاش بإخلاص تام يوصي طلابه “بعدم إعلام موضع قبره حفاظًا على سر الإخلاص ولئلا يجرح الإخلاص الذي في رسائل النور، فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيًّا كان فإن ما يقرؤه من الفاتحة يصل إلى تلك الروح”[2]، فما أهمية أن يعرفه الناس أو يجهلوه إذا عرفه الله! هذه هي الفكرة التي لا بد أن يتبنّاها المحتسبون الذين نذروا أنفسهم للخدمة الإيمانية؛ عليهم أن يقوموا بخدمات تقرّ بها العيون وتغبطها القلوب، لكن عليهم أن يواصلوا حياتهم كالمجهول، ثم ينضموا بعد ذلك إلى جيش المجاهيل، ويدَعوا أنفسهم بين شلالات مجهولٍ تجري إلى بحرٍ مجهول يذوبون فيه ويتلاشون.

***

[1] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، المذكرة الثالثة عشرة، ص 180.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي: السيرة الذاتية، ص 523.