الجَرَّة المشروخة: غيــــــرة الله

الجَرَّة المشروخة: غيــــــرة الله
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

   سؤال: ذكرتم في مناسبات شتّى أن وقوع الظلم أو ارتكاب بعض الذنوب يفضي إلى إثارة غيرة الله، فما المعنى المقصود من أن الله غيور أو إثارة غيرة الله؟

   الجواب: لا يعزب عن علمكم أن اسم “الغيور” لا وجود له بين أسماء الله الحسنى، بل إننا لا نكاد نجد مثل هذا الاسم بين الأسماء الحسنى التي نصّ عليها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، أو التي أفاض في ذكرها أمثال محي الدين بن عربي، أو التي ورد ذكرها في كتب الأدعية، ولا يعني ذلك أن هذا الاسم لا وجود له في الحقيقة؛ فربنا سبحانه وتعالى وإن كان قد أعلمنا ببعض أسمائه الحسنى في القرآن الكريم، وأخبر ببعضها أنبياءه العظام عليهم السلام، فقد اختص لنفسه بعضَ الأسماء الأخرى؛ لأن العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى ليست عبارة عن العوالم المادية التي نعلمها فقط، إنما له سبحانه وتعالى عوالم أخرى لا نعلمها تتجلى فيها أسماء أخرى نجهلها، لكن نظرًا لأن معرفة هذه الأسماء والإيمانَ بها لا يعنينا كثيرًا ربما من أجل ذلك لم يخبرنا الله تعالى بها.

   الأفعال التي تثير غيرة الله

ومع ذلك فكما جاء في السؤال نصَّتْ بعض الأحاديث الشريفة عن غيرة الله تعالى، ويُفهم من ذلك أن هذه الغيرة هي خُلُقٌ ربّاني مهمّ، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ[1]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ وَمِنْ غَيْرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[2].

وعن الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه: “لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ”، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي[3].

لقد خلق الله الناس بفطرة سليمة سويّة، وفرض عليهم بعضَ الحدود والمحاذير، ودلّهم على العيش في عفة وطهارة دون الوقوع في الذنب، فلو لم يراع الناسُ الحدود التي افترضها الله عليهم وأفسدوا الفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها بارتكابهم الذنوب والمعاصي ودنّسوا قلوبهم وضمائرهم كالصبية المشاغبين الذين يلعبون ويدنّسون ملابسهم؛ فقد تسببوا بحالهم هذه إلى استثارة غيرة الله تعالى.

وإذا أردنا مزيدًا من التفصيل فلنقل إن الله تعالى خلقنا من العدم، ولم يكتف بهذا، بل وهبنا الحياة والشعور والعقل والفكر، ودلّنا على سبل الهداية بأن أرسل إلينا أنبياءه عليهم السلام وأنزل علينا كتبه؛ أي إن الله تعالى وهو يأمرنا بأداء وظيفة العبودية وهبنا ما يلزم لنقوّي صلتنا به على الوجه الصحيح، من أجل ذلك فإن الإنسان لو انحدر في طريق الفسق والفجور، وارتكبَ المنكرات، فأفسدَ فطرته السليمة؛ فقد استثار غيرة الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يترك للإنسان عذرًا بعدما أنعم عليه بكل هذه النعم وأرشده إلى الصراط المستقيم.

إن الإنسان إذا ارتكب ذنبًا لا يفسد فقط الفطرةَ السليمة التي فُطر عليها، بل يكون بذلك قد عصى الله أيضًا؛ لأنّ تجاوُزَ الحدود التي فرضها الله وانتهاكَ المحاذير التي وضعها سبحانه وتعالى يعني -من جهة ما- مجابهة الله بالتمرد والمعصية، وكما جاء في الأحاديث الشريفة التي ذكرناها آنفًا فإن ربنا سبحانه وتعالى يغار إذا أتى المؤمن ما حرّم الله عليه.

ولا جرم أن أعظم معصية تثير غيرة الله هي الإشراك به، وإنكار وجوده، لأننا إذا نظرنا إلى المسألة بمنظور بديع الزمان سعيد النورسي فسنجد أن كل من أنكر وجود الله فقد تعامى عن كل الآيات التكوينية التي تدل على وجود الله ووحدانيته، وضرب بكل صحائفها وسطورها وكلماتها عرضَ الحائط، ولا شك أن التعاميَ عن آثار الله البديعة التي عرَّفَنا ربُّنا بنفسه من خلالها، وغضَّ الطرف عن شهاداتها، وسدَّ الآذان عن سماعها بل وإنكارها؛ هو جرمٌ عظيمٌ لا شكّ أنه سيُثير غيرةَ الله.

ويمكن أن نشبِّه غيرةَ الله -من جهةٍ ما- بدفاع الناس إذا انتُهكت أعراضُهم واستولِي على أموالهم واعتدِي على حرياتهم، أو بتطبيق الدولة العقوبات على المواطنين الذين ينتهكون قوانينها؛ لأن الإنسان تكمن في طبيعته غيرة إزاء الحفاظ على هذه القيم المذكورة، فلا أحد يتحمّل أن يُنتهك عرضه أو يُدنَّس شرفُه أمام عينيه، وعلى هذه الشاكلة لا يرضى الله عز وجل -ولا أستطيع أن أقول “لا يتحمل” في حقّ الله تعالى- بأن تُداس القوانين التي وضعها، ولا أن يُتعدَّى على الحدود التي فرضها؛ أي كما أن في الإنسان غيرةً وإنكارًا للظلم فإنّ الله سبحانه وتعالى له غيرة، لكنها غيرةٌ خاصّة به، تليق بذاته العليّة، فهو يُمهل ولا يُهمل.

   إمهال الله تعالى

إن الله تعالى لا يتعجّل في معاقبة عباده على سيئاتهم وذنوبهم وخطاياهم، ولكنه يعطيهم مهلةً بعد أخرى حتى يتعقلوا ويُقلعوا عن أخطائهم التي ارتكبوها، حتى إن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه كان يتعجب من إمهال الله للفجار والظالمين، ويقمع مشاعره وينفِّس عن نفسه بقوله: “مَا أَحْلَمَكَ يَا رَبَّنَا”.

فلو كانت العقوبات التي ستُفرض على الذنوب والجرائم متوقفةً على حكم البشر فلربما فَنِـيَ البشرُ، لكن سنّةَ الله تعالى اقتضَتْ ألّا يتعجل بمعاقبة عباده العاصين، وهذا الخُلُقُ الإلهي تبيِّنه الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/61).

أجل، لا يتعجّل الله في معاقبة الناس لأن رحمته سبقت غضبه، ولكن يجب على الإنسان الذي يخوض في مستنقعات الذنوب والمعاصي ألا يتمادى في معاصيه لما يرى من صبر الله عليه وإمهاله له، بل عليه أن يفكرَ في المهلة التي مُنحَت له ويرتعدَ خوفًا؛ لأنه سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل، والآية الكريمة تقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (سورة الزَّلْزَلَةِ: 99/7-8).

وهنا يجب أن نعلم أن إمهال الله للإنسان الذي أبحرَ في لُـجّـةِ المعاصي هو نوعٌ من أنواع الابتلاء، فلو اعتقد الإنسانُ أنه أفلتَ من العقاب، وأن أموره ستبقى على ما يُرام، ولم يرجع عن خطئِه، وركَنَ إلى الغفلة؛ فقد خسر الامتحان، أما إذا تحرّك على بصيرةٍ وتعقُّل، وعمد إلى تلافي قصوره وأخطائِه فقد فازَ في الامتحان؛ وهذه واحدةٌ من الحِكَمِ الإلهية التي تقف وراء إمهال الله لعباده المذنبين.

وإلا ألزم الله الحدّ لمَنْ لا يلتزمون حدودهم، وأعلمهم قدرهم، وقد يأتي يوم تُثار فيه غيرة الله على الذنوب والمعاصي، ويستأصل سبحانه وتعالى شأفة الظالمين والعصاة، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ[4]، وعقب ذلك يذكِّر بقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (سورة هُودٍ: 11/102).

   احترام التدابير الإلهية

إن الإمهالَ وعدم التعجيل بالعقاب من قوانين الله تعالى، أي إنه سنَّة الله؛ فالله عزّ وجل يسمح إلى وقت معين ببعض المخالفات في هذا النظام الذي أسّسه، أما نحن فربما لا نستطيع دائمًا أن نعي ماهية المسألة، ومن ثم ينبغي لنا أن نتجنب التصرفات التي تعني اعتراضًا أو تشكّيًا من المسائل التي عجزت عقولنا عن إدراكها، وإن عشنا حالة من الحيرة والدهشة بين الحين والآخر لعجزنا عن معرفة السبب في أن غيرة الله لم تمس الظالمين المستحقين للعقاب فيلزمنا إزاء هذه الإجراءات الإلهية أن نصبر دائمًا ونقول “لله في كل أمر حكمةٌ؛ فهو لا يفعل شيئًا عبثًا”، علينا أن نقابل بالصبر والشكر كل حادثة نطلع عليها أو نتعرض لها، وألا نقصر في تعظيم الله تعالى مهما يحدث لنا، وألا نتساءل عن أيٍّ من أفعاله على الإطلاق.

وكما تكون للإنسان مواضع يشعر فيها بالحماس والهيجان هناك أيضًا مواضع يجب أن يلتزم فيها الهدوء والصبر والحذر، فمثلًا ينبغي للمؤمن أن يكون مفعمًا بالهيجان والحماس والشد المعنوي فيما يتعلق بتطبيق أوامر الدين جميعها، وأدائِها أداءً تامًّا بكل دينامياته الداخلية والخارجية، والفوزِ برضا الله، وتعريفِ الجميع بالذات الإلهية، والإسهامِ في تلاقي القلوب بالله تعالى عبر إزالة الموانع التي بين الله والناس، وأداء الخدمات المنوطة به، ومهما تعرض لمختلف أنواع العقبات، ومهما دُمِّرت خططه وإستراتيجياته، واحتُلت قلاعه، عليه أن يواصل من جديدٍ المسيرَ في طريق الخدمة مستعينًا “بالله”، ذلك أن وقوف القلب إلى جانب التصرفات والأعمال المنجزة، ومخالطة الهياج والحماس الداخلي للأعمال المنفذة مهمة للغاية في سبيل فهم الإسلام الحقيقي ومعايشته.

إنّ التحلّيَ برباطة الجأش إزاء تقديرات الله ومشيئته واجبٌ حتميّ؛ لا سيّما إن جاءت مخالفةً لرغبات الإنسان.. حتى وإن أدّت لأحداثٍ ووقائع يتفطَّرُ لها وجدانه فعليه أن يقابلَها بصبرٍ ورضًا، ثم يُخضِعُها للتأمّل والتدبّر.. أي إنه يجب السيطرة على الهياج والحماس في مثل هذه الأوضاع، والتحرك بفطنة وتعقُّل.

تُرى ماذا يكمن وراء هذه الحوادث؟ ماذا تعني بالنسبة لنا؟ تُرى هل ذنوبُنا وأخطاؤُنا وغفلتُنا هي التي تسبَّبت في هذا؟ أيُّ نوعٍ من الذنوب والأخطاء تسبَّبَ في هذا؟ أم أن الله تعالى يريدُ تنبيهَنا وتحذيرَنا كي نفتح أعيننا ونركز أكثر؟ أم أنه تعالى يريد أن يمحصنا ويشحذنا ويقوّينا بالابتلاءات والمصائب حتى نستطيع التغلب على مشكلات أكبر في المستقبل؟

هكذا ينبغي تقييم كل هذه الأمور برباطة جأش وحذر، ثم القيام بما يجب القيام به؛ فالحماس حين يكون في موضعه يكون مفيدًا بالنسبة لنا، بل وكما أن ذلك يكون وسيلة لأن نرتقي عموديًّا إلى أفق القرب، فإن استخدام التدبير المناسب في موضعه، وكذلك الصبر والتؤدة يرقى بنا إلى ذلك الأفق بالشكل نفسه أيضًا.

ويمكننا أن ننظر إلى المسألة من خلال الحكمة القائلة: “مَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ أَمِنَ مِنَ الْكَدَرِ”؛ أي إن كل من يؤمن بالقدر وأحواله ينجو من كل كدر ودنس في عالمه العقلي والروحي، ويحمي خياله وتصوراته من الأفكار الدنسة، ويظفر بالأمن والطمأنينة في عالمه الداخلي.. وينبغي كذلك أن نتذكر أن كل أنواع السعي والاجتهاد الذي يبذله الإنسان ليحافظ على طهارة عقله وقلبه ويدفع عنهما الأفكار الدنيئة القذرة سوف تسجل في سجل حسناته من جملة العبادات.

   القشة التي قصمت ظهر البعير

أجل، قلنا إن الله تعالى يمهل العباد الغارقين في مستنقعات الذنوب والظلم حتى يستفيقوا ويتعقلوا، ولكنهم حين يصرون على عصيانهم وتمردهم يأخذهم سبحانه أخذ عزيزٍ مقتدر ويعاقبهم على فعلهم، غير أننا لا نعرف أية قطرة هي التي ستجعل الكيل يطفح، ولا القَشَّةَ التي ستقصم ظهر البعير، ومتى ستمسّ الذنوبُ غيرة الله، ومتى سيعاقبُ الله الظالمين!

وثمة منقبة تتعلّق بهذا؛ حيث يُحكَى أن مجموعةً من اللصوص وقطاع الطرق اعترضوا طريق قافلةٍ متجهة إلى الحج، وأخذوا كل ما تحمله من أموال قيمة ثمينة، وكان في القافلة شخص من أهل الله كان قد خرج بمفرده إلى الحج ولكنه انضم إلى هذه القافلة في الطريق لاحقًا، فلما رآه كبيرُ اللصوص يبدو هادئًا ومطمئنًّا جديرًا بالثقة هكذا ذهب إليه واثقًا بأنه سيصدقه القول، وسأله: “هل بقي عند أحدٍ مالٌ أو شيءٌ ثمينٌ آخر؟”، فأجابه على الفور: “نعم، إنَّ رئيسَ القافلة يرتدي قميصًا فاخرًا للغاية”؛ فأخذوه أيضًا بين جملة المسروقات.

لقد تأذّى رئيس القافلة مما فعله تجاهه هذا الشخص رغمَ أنه كان قد أحسن إليه وضمه إلى قافلته، ولكنه لم يرد قول شيء لهذا الشخص الذي ما زال يُحسن الظن به، وبعد مدة قصيرة قبض رجال الشرطة على هؤلاء اللصوص جميعًا، وأعلنوا للعامّة أن من سُرِقَ منه شيءٌ فليأتِ لاسترداده، حينها سأل رئيسُ القافلة هذا الشخص لماذا أخبرهم عن قميصه، فأجابه: “نظرتُ إلى ما فعله هؤلاء الظالمون، فإذا بي أرى مسافة قصيرة بينهم وبين استثارة غيرة الله، فتصرفْتُ هكذا بحيث يزداد ظلمُهم أكثر فأتعجّل بهم غيرةَ الله تعالى”.

وعلى أية حال فإنّ هذه حكاية من حكايات المناقب، والمناقبُ يُنظر إلى فصلها أكثر من أصلها، إلى الرسالة التي تريد إيصالها، ولذلك فإننا نفهم من هذا أن لكل شيء حدًّا، فإذا ما تجاوزه فإنه يمسّ غيرة الله، فالظلم يُرتكب مرة واثنتين وأكثر، ثم بعد ذلك يمسّ غيرة الله تعالى.

   كيفية تجلي غيرة الله

إننا ننزعج إزاء الاعتداءات والتجاوزات التي تمس غيرتنا، ونشعر بالقلق والاضطراب نحوها، ونفعل ما بوسعنا لمنعها، لكن عباراتٍ من قبيل الانزعاج أو القلق والاضطراب إن استُخدمت بحقنا لا يمكن استخدامها بالنسبة للذات الإلهية، بيد أنه ورد في القرآن الكريم حديثٌ عن غضب الله عز وجل، وعلينا هنا أن نفهم المسألة بما تستلزمه، أي حين يغضب إنسان يفعل ما يفعل، وهكذا ينبغي لنا أن نحاول أن نفهم معنى غضب الله، فكما أننا نعاقب المجرمين والمعتدين على حقوق الآخرين بيد العدالة سوف يجازي الله تعالى أيضًا الظالمين والعصاة بأشكال مختلفة سواء في هذه الدينا أو في الآخرة.

ومهما أُمهل السائرون في طريق الغي والضلال إلا أنهم إذا جاوزوا الحدَّ فأثاروا غيرةَ الله فسوف ينالون عقاب كل جرائمهم التي اقترفوها، وكما يمكن أن تكون هذه العقوبة من خلال التعرض للبلاء والمصائب أحيانًا، تكون أحيانًا أخرى بانتزاع الإيمان من العصاة والظلمة في لحظة الموت، لكن ليس من الصحيحِ أن ننتظر دائمًا حدوث هذا العقاب في الدنيا، ولا سيما العقاب على الكفر فأمره متروك للآخرة لأنه سيكون ثقيلًا وعظيمًا للغاية.

كنت سمعت من الأستاذ “يشار طونه كور” عن حادثة عاشها شخصيًّا أو أحد المقربين إليه على النحو التالي: بينما كان صاحب الحادثة يملأ دلوه عند نبع الماء كي يسقي حصانه جاء شخص ثانٍ، فتجاوزه دون أدبٍ وأراد أن يسقي حصانه، فلما طلبَ الأول من الثاني أن ينتظر لأنه لم ينته من عمله بعدُ؛ صفعَه الثاني دون وجه حق! ودون أن يقابل الأوّلُ هذا الفعلَ بأي ردٍّ؛ ذهب إلى شيخه، وقصَّ عليه ما حدث، ففطن شيخُه إلى الأمر، مما يدلّ على أنه كان من أهل الحال، وقال له: “اذهب إلى ذلك الشخص حالًا، وقل له إنك تسامحه! فإنك إن تركت الأمر لله فعقابُه سبحانه سيكون شديدًا”. وعليه، انطلق الرجل راكضًا، فلما وصل إلى البئر نظر فإذ بحصانه قد طرح الرجل أرضًا برفسة منه”.

ولكن ينبغي القول إن أسلوب المظلوم وحاله مهمّ للغاية في مسألة أن يُثير ظلمُ الظالم غيرةَ الله تعالى؛ فظلمُ المظلوم لنفسِه أحيانًا ما يُعادل ظلمَ الظالمِ له، أي إن الله تعالى حين يحكم بحقّ الظالم ينظر إلى المظلوم إن كان قد وفّى حقّ موقعه بالفعل أم لم يوفِّه، فإن لم يستطع المظلوم أن يكون عبدًا وفيًّا لله تعالى، ولم يتّجه إليه بإخلاص، وإن وقع في مجموعة من التصرفات السلبية، أَخَّر الله تعالى عقاب الظالمين، لذا فبينما يجب من جانب أن تصل المظالم المرتكبة إلى حدٍّ ما كي تتجلى غيرة الله تعالى، يجب من الجانب الآخر ألا يكون في تصرفات المظلومين والضحايا وسلوكياتهم ما يمكنه أن يكسر هذا ويحول دون تحققه.

لذلك فإن الأمر يدور ويدور ثم يرجع إلينا، وهذا يقتضي منّا أن ننظر إلى أنفسنا أولًا وقبل كل شيء، علينا أن نوقن بأن الله لا يظلم أحدًا من عبيده مثقال ذرة، وأنه لا يضيع حقّ أحد، ولكننا قد نضيع أنفسنا أحيانًا بأشياء صغيرة للغاية دون أن ندرك ذلك، ولذلك يجب علينا ألا نندهش إذا نظرنا إلى حال الظالمين وإمهال الله تعالى لهم، بالعكس ففي مثل هذه القضايا يلزمنا أن نضع في حسبانِنا حالَنا أنفسَنا بالدرجة الأولى، ونقول: “أي نوع من الأخطاء ارتكبناه يمكنه أن يكون السبب في إمهال الظالم؟!”، وعلينا حتى وإن كانت كل تصرفاتنا سليمة، وحياتنا رمزًا للصواب أن نتصرّف بشجاعة ونقول: “إن كان لدينا اعوجاج وانحراف، فأفسدنا تناغم الخدمات المبذولة، وتسببنا في اضطرابها فإن باطن الأرض خيرٌ لنا من ظاهرها”، إن نظرنا إلى المسألة هكذا لم ننتقد القدر، ولم نقع في أقوال غير لائقة عن الذات الإلهية، ولم نسِئ الظن في الآخرين.

***

[1] صحيح البخاري، النكاح، 6؛ صحيح مسلم، التوبة، 36.

[2] صحيح البخاري، النكاح، 107؛ صحيح مسلم، التوبة، 32-36.

[3] صحيح البخاري، الحدود، 42؛ صحيح مسلم، الطلاق، 17.

[4] صحيح البخاري، تفسير السورة (11) 5، صحيح مسلم، البر، 61.