أصحاب النفوذ وتقبُّلُهُم للحقّ

أصحاب النفوذ وتقبُّلُهُم للحقّ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: بالنظر إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم السَنِيّة وقصصِ الأنبياء المذكورة في القرآن الكريم يتبين أن مَنْ يبدون في الوجاهة والصدارة من الناحية الاجتماعية ويعيشون حياة فارهة وعالية المستوى هم أكثر عنادًا وفظاظةً في قبول الحق والاعتراف به؛ فما هي الأمور التي يجب أن تنتبه إليها القلوب المؤمنة الراغبة في أن تكون ترجمانًا للحق والحقيقة تصديًا لهذا الأمر الواقعي؟

الجواب: كما كان الحال في كل الأزمان والفترات فإنَّنا في يومنا هذا أيضًا نجد أقلية أوليغارشية[1] تسعى لسحق من لا ينتمون إليها ولا يفكرون مثلها وتستخدمهم كالعبيد، وتمتص دماءهم، وترغب في أن تُصمِّمَ العالم كما يحلو لها؛ فتستخدم كل شيء فيه وفقًا لهواها ونزواتها ومصالحها الشخصية، ولذلك فإنها لا تأبه بأحد سواها بل وتنظر إلى الآخرين نظرة العبيد والمستخدمين، وكما توجد تلك القِلة البَطِرَةُ المغرورة التي يمكن أن نسميها “شرذمة قليلة” في بلدنا فإنها توجد في غيرها من البلاد الإسلامية، وستكون موجودةً في المستقبل أيضًا.

صاحب الحق هو الوحيد القائل “لا أُفرّط في حقّي!”

ومن غير الصحيحِ اعتبارُ هؤلاء الناس الذين يرون أنفسهم في القمّة -كما هو الحال في درجات النظام الطبقي- قادرين دائمًا على إخضاع المجتمع لوصايتهم وسيطرتهم؛ فقد تضاءلوا لا سيما في تلك الفترات التي ساد فيها الفكر الديني والأخلاقي بالمعنى الحقيقي في المجتمع وانكمشوا واضطّروا إلى أن يظلّوا في دائرة ضيقة، غير أنَّهم حافظوا على أفكارهم الموجهة لأَسْرِ المجتمع والسيطرة عليه؛ فواصلوا إنتاج مجموعة جديدة من الخطط والمشاريع ذات الحقائقِ التخريبية والتقويضية حتى في فترات تضاؤُلِهم وانحسارِهم في مكانٍ ضيق وجمعِهم أذنابهم وانسحابِهم إلى أوكارِهم، غير أنهم احتلّوا كلَّ مجالات الحياة وسيطروا عليها ولجؤوا إلى القوّة الغاشمة فسحقوا كلَّ من لا ينتمي لفكرهم حينما تمكنوا من الأمر وسنحت لهم الفرصة تمامًا، وتلك حقيقة لا مراء فيها.

ومع ذلك فإنَّه لا ينبغي الحكم بأنَّ وصولهم إلى ذلك الوضع كان نتيجةً لظلمهم وتمردهم فحسب؛ إذ نجد في الجانب الآخر أن غفلة المجتمعات وذهولها وعجز أصحاب الفضيلة الذين يكافحون هذه الشرذمة عن تحقيق الوحدة والاتحاد فيما بينهم، وتحركهم دون تخطيط ولا ترتيب؛ كل هذا لعبَ دورًا مهمًّا في الوصول إلى تلك النتيجة، ويمكننا القول ما من مجتمع ينسحق تحت جبروت وتحكُّم أولئك الظالمين إلا وهو يستحق ذلك الظلم والقهر، والحقيقة أنَّه ينبغي لنا أنْ نردّ إلى أنفسنا وأخطائنا وتقصيراتنا كلَّ أنواع البلاء والأزمات التي نتعرض لها، وهو ما يوصي به القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (سُورَةُ الشُّورَى: 30/42).

إن الواقع يشهدُ بأن الإنسان لا يضرّ نفسَهُ إلا إذا فقدَ عقله، غير أن بعضًا من الإهمال والتقصير مثلَ غفلة الإنسان وعدم رؤيته المستقبل، وحبّه نفسه وركضه وراء المناصب والرّتب الدنيويّة قد تتسبّب في تضرُّره لدرجة أنْ يُحكم عليه بأنَّه “أضرّ بنفسه عن عمدٍ وقصدٍ”، وإذا كان الإنسان يحظى ببعض أوجُهِ الجمال والخير برغم كثرة أخطائه وذنوبه فلا بدّ وأن يعلم ويوقن أنه ما أوتي ذلك الخير والنعيم إلا من عند الله تعالى.

ويقول الشاعر التركي المرحوم محمد عاكف إن صاحب الحق هو فحسب من يقول “لا أُفرّط في حقي!”، وعليه فإنَّ مجرَّد الصياح والصراخ والتذمّر والتشكّي في وجه تعديات ومظالم الأقلية الأوليغارشية لا يؤدي إلى نتيجة إيجابيّة، بالعكس لا بد من النضال والكفاح الحكيم والمنطقي من أجل عدم إضاعة الحق، فإن غُفل عن الحق فضاع وَجَبَ بذلُ كُلّ أنواع الجهد من أجل استرداده، وتحتّم إذا لزم الأمر بَذلُ كُلِّ أنواعِ التضحية من أجل استردادِ حقوق العيش بصورة إنسانية عبر السعي والعمل الدؤوب ضمن أطُرِ القانون داخل دائرة العدالة في ضوء توصيات القرآن الكريم والسنة النبوية.

متكبرو العصر، وصوت الحق الجهوري

وبينما نرى محتكري المال والقوّة والسلطة والمناصب والمقامات في الدنيا يَزْدَرُون ويحتقرون الشعب اليوم كما كانوا بالأمس فإنهم يعتبرون أنفسهم كالنجوم في السماء، بل إن عددهم كثير للغاية في يومنا هذا لدرجة أنَّ إطلاق مصطلح الأقلية الأوليغارشية عليهم ليس كافيًا، ولا ريب أنَّ قوّتَهم لا تساوي شيئًا قط أمام حول الله تعالى وقوته، ولا تمثل شيئًا بالنسبة لمن يلجؤون إليه تعالى، غير أن الفراغ الناتج عن غفلتنا وضعفنا يجعل القوةَ من الأهمية بمكانٍ؛ إذ تستخدمها الأقلية الأوليغارشية ضدنا، وليس صحيحًا الاعتقاد بأنَّ تلك النوعية من الطوائف المتطفلة على الأمة سوف تبقى على حالها هذا دائمًا؛ فسيخرج من بينهم يومًا ما مَنْ يندمون على المظالم التي ارتكبوها، ومن يتوبون عما فعلوا، ومن يبدلون أفكارهم ومشاعرهم ويفضلون العيش والحياة بإنسانية، ولا سيما أنه من الممكن مشاهدةُ أمثلةٍ كثيرةٍ من هذا في عصر النبوة المبارك، فلقد كانت أغلبية المؤمنين الأوائل من طبقة الفقراء الذين يعملون عند أصحاب الثروة والسلطة، ومن ذلك على سبيل المثالِ بلالٌ الحبشيّ وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين؛ إلا أن الأعوام اللاحقة شهدت التحاقَ سادة مكّة وروّادها بتلك الحلقة النورانيّة.

وبالنظر إلى المؤمنين الأوائل الذين يُشكلون المركز والنواة الأولى في الإسلام يتسنى لكم إجراء مجموعة من التحليلات النفسية الاجتماعية؛ فيمكنكم على سبيل المثال القول إنَّ أولئك الأشخاص الذين كانوا يعانون الاضطهاد بحثوا دائمًا عن سبل للخلاص والنجاة من ظروف الحياة السيئة التي كانوا يعيشون فيها، وأنهم لما رأوا سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم وصدقه وعفته وفطنته العالية وحزمه سارعوا إليه باعتباره مرجعًا وملاذًا يمكن الرجوع إليه، أو أنهم لما وضعوا في حسبانهم عدم وجود أية علاقة تربطهم بالدنيا أو كونهم لا يملكون شيئًا من حطامها يخافون أن يفقدوه سَهُلَت عليهم التضحية بأرواحهم في سبيل الله، أو أنَّ رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواسعة ومعاملته الحسنة لأولئك الناس الذين تألموا ظلمًا واحتضانه إياهم ودعمه ومساندته لهم كان سببًا في قبولهم الإسلام بشكل أسرع وأيسر، ويمكنكم إلى جانب كل هذا أيضًا أن تعتبروا أنَّ هذا التوجُّهَ الذي صدرَ من أُولي الفقر والحاجة إلى مثل هذا النور الأزلي إنما تحقَّق بدافعٍ إلهيٍّ ليسَ إلا، ومهما كان العامل الذي أدى إلى تلك النتيجة؛ فإنَّ مما لا شكَّ فيه ولا ريب أنَّ الغالبية العظمى من أولئك الأبطال الذين شكلوا الصف الأول من المسلمين كانت من الفقراء والبسطاء الذين احتقرهم عِلْيةُ المجتمع وسادتُه.

ثمّ جاء يومٌ انضم فيه إلى صفوف المسلمين سادةُ المجتمع الذين كانوا في السابق يعترضون طريق المسلمين ويسعون لاضطهادهم وعرقلتِهم إذا ما سنحت لهم الفرصة، فعلى سبيل المثال نرى سيدنا حمزة رضي الله عنه وقد جاشت غيرته الإنسانية وثارت ثائرتُهُ الفطريّة عندما تفوّهوا بما لا يليقُ وحقَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم[2]، يعني أنَّ هذه الجوهرة والقابلية كانت كامنة في روحه، فهذا الإنسان العملاق رمز البطولة والفتوّة أسلم نفسه تمامًا للإسلام بعد أن اعتنقه وإن كان قد تردد بعض الشيء في البداية، وخلّد اسمه في السماوات العلى بعد أن نال مرتبة الشهادة فصار يُعرف بـ”أسد الله وأسدِ رسوله”[3]، وأبو سفيان الذي كان رقمًا صعبًا في معادلة التمرّد والعصيان قد تبوأ رضي الله عنه مكانه إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله في الإسلام بعد فتح مكة[4]، وهناك الكثير يشبهونه من قادة المشركين أسلموا أنفسهم للحق وانتقلوا من حظيرة الشرك إلى روضة الإسلام والإيمان.

لا ينبغي أن يُحرَم أحدٌ من الجمال والخير

 “فكم من شخصيّات عظيمة، وسلاطين ذوي وجوه نورانية، وملوك وأباطرة ككسرى أنو شروان” قد يخرجون اليوم من بين صفوف الأقلية الأوليغارشية التي كانت ترى نفسها في قمة النظام الطبقي وتتصرف وكأن من حقها أن تضطهد الآخرين وتسحقهم؛ قد يخرجون ويساندونكم في إقامة القيم العالمية وإرسائها.

بل يمكن القول إنَّ علائم هذا لاحت في عصرنا وظهرت كالندى الذي ينزل على أوراق الشجر والنبات وإن لم تكن كالمطر، لأن من يمتلكون إمكانيّات دنيويّة جيّدة للغاية ويبدون بالنسبة لبعضهم البعض في درجات متفاوتة بحسب النظام الطبقيّ ويَرون أنفسهم بعيدين عنَّا باعتبار فلسفاتهم، بل ولا تتوقّعون أن تُشاركوهم نفسَ الفكرة المثالية إذا ما تعرّفوا بالجمال والحسنِ تراهم يتقدّمون الصفوف ويتبنَّون أنشطةً في سبيل السلام والإنسانية، وإذا ببعضهم يرغب في افتتاح المدارس في بعض الأماكن، والبعض الآخر منهم يريد تأسيس جامعة في مكان ما، وآخر يريد أن يتبرع بقطعة أرض تقام عليها مؤسسة تربوية، ولأنهم يمثلون في الوقت ذاته قدوة للآخرين بسبب خدماتهم هذه فإن من يراهم في مثلِ هذه المواقف يتحمّس فيقول: “لأفتتح أنا أيضًا مدرسة، ولأنشئ أنا أيضًا جامعة”، ولذلك فإنَّ واجبنا هو الاهتمام بكل أفراد المجتمع دون التفريق بينهم أبدًا، وليس من الصواب أن نقول: “إن الإصلاح يتحقق بواسطة الفقراء أو الناس من الطبقة المتوسطة”، ربما يكون هؤلاء الأشخاص قد تقبّلوا ما تقومون به من خدمات منذ البداية بقبول حسن، وانشرحت صدورهم لكم، وأنتم أيضًا بدوركم قد خالطتموهم وعاشرتموهم كثيرًا؛ لكن مع ذلك لا بد من إعلاء الهمة والسعي من أجل الوصول إلى كل الأشخاص أيًّا كان مستواهم نظرًا لكثرة الخدمات اللازمة للإنسانية، ولا بد كذلك من السعي والاجتهاد لإدخال أصحاب الإمكانيات الدنيوية ومن يتعالون على الآخرين في الأمر، غير أنه ينبغي لنا ونحن نبذل وسعنا من أجل تحقيق هذا ألا ننسى أنَّ بعضهم يكفيه يوم كي يقبل ويؤمن بالقيم التي نؤمن بها، وبعضهم يكفيه أسبوع، وبعضهم لا يكفيه أقلّ من شهر، والبعض الآخر لا تكفيه سنة.

ومن يدري كم مرة طرق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بابَ أبي جهل، وعرض عليه دعوته! واستفاد من كل فرصة دون غضبٍ ولا جزعٍ، وسعى كي يبلغه بحقائق الإيمان؛ فقد كان أبو جهل من سادات بني مخزوم[5]، ولو أنه دخل في الإسلام لكان من المحتمل أن تتبعه قبيلته كلها فتعتنق الإسلام مثله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطرق باب أبي جهل فحسب، بل أبواب جميع سادات وزعماء مكة، وتردَّد عليهم بالنصح وقدم إليهم رسالته دون ملل ولا سأم ولا ضجَر، ومع أن الإيمان لم يكن من نصيبِ أبي جهل إلا أنه كان من نصيبِ ابنِه عكرمة رضي الله عنه، فلقد رقَّقَ النبيُّ قلبه بالرأفةِ والشفقة، فجاءه عكرمة بعد أن انضمّت قريش عن بكرة أبيها إلى قافلةِ الإسلامِ، ولم يتخلّف عن ركب رسولِ الله أحدٌ من زعمائها وصناديدِها، فآمن وأسلم، وحسُن إسلامه، وربما دخل الناس في دينِ اللهِ أفواجًا أفواجًا في شبه الجزيرة العربية كلّها بتأثير الحالة النفسية العامة[6].

ومن هذه الناحية فلا بد من الاستفادة من كل الوسائل والسبل المشروعة من أجل الوصول إلى كل شرائح المجتمع، وطرْقِ أبواب الجميع دون يأس ولا قنوط ولا ملل، فربما يسيء إليكم البعض، ويصِفكم بـ”الرجعية” و”التخلف”، أو يلمزكم بألقاب وأسماء مختلفة، لكنّكم إذا أدّيتم هذا الأمر حقَّ الأداء فإنّكم تحوزون ربحًا ومكسبًا يقينيًّا وإن لم تُؤدّوه كانت خسارة حتميّة بالنسبة لهم، فإن كانت رسالتكم مفتاحًا سحريًّا وسريًّا للفوز التام -وقد منح الله تعالى كل من يسعى بصدق وإخلاص في سبيله تعالى مفتاحًا سريًّا وسحريًّا كهذا- فحريٌّ بكم أنْ تحاولوا مرات كثيرة وعديدة أن توصلوا هذا المفتاحَ إلى أيديهم حتى وإن وصل الأمر إلى أن تقبّلوا أقدامهم مرات ومرات؛ فيجب على خدام القرآن الكريم ألا يأبهوا بأية كلمة وألا يعلَقُوا بأي عائقٍ أصلًا ولا بأية قسوة ولا جفوة كي يستطيعوا إدخالَ الناس وسَوقَهم إلى طريق السعادة الأبدية والخلود.

 

[1] الأوليغارشيّة: نظام سياسي تتولى السلطة فيه فئةٌ قليلة من ذوي النفوذ والمال.

[2] ابن إسحاق: السيرة، 151/2-152؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 129/2.

[3] الطبراني: المعجم الكبير، 149/3؛ الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 149/13.

[4] البيهقي: دلائل النبوة، 102/5؛ ابن عساكر: تاريخ دمشق، 458/23.

[5] ابن اسحاق: السيرة، 191/4؛ ابن أبي شيبة: المصنف، 255/7-256.

[6] ابن هشام: السيرة النبوية، 248/5-249؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 157/2-161.